طلال سلمان

هل تجرف جرثومة العصر..”صفقة العصر”

وسط الكم الهائل من التطورات الناشئة عن الهجمة الفيروسية الكورونية على البشر بمَن فيهم من جيوش وحكام دول ومصارف مركزية والتي حتى إنتاج اللقاح الذي يصد ويشفي، ستبقى هذه الجرثومة مصدر خوف لكل إنسان يعكر عليه حياته ويحوِّل حقه في النوم إلى حالة أرق، هنالك إستحقاق لا ندري ما إذا كانت الهجمة الكورونية جرفتْه في إجتياحها المتواصل شاملاً معظم دول العالم من القطب إلى القطب، أم أنه برسم تحريكه بعد إنتهاء شهر الصوم الذي لم تهنأ الأمتان به، على نحو ما كانت شعوب هاتيْن الأمتيْن تهنأ به روحياً وإجتماعياً في زمن ما قبل الغزوة الكورونية.

الإستحقاق الذي نعنيه هو ما إصطُلح على تسميته “صفقة القرن” ﻛ”وصفة حل” ﻠ”عقدة القرن تلو القرن” والمجيَّرة من العام 2019 إلى العام 2020 والتي لم تحسم أمرها تلك الورشة التي إستضافتْها العاصمة البحرينية (المنامة) قبْل عشرة أشهر (الثلاثاء 25 يونيو/حزيران 2019) وبذل مسوّقها جاريد كوشنير جهداً ملحوظاً مستقوياً بدعم غير محدود من جانب الرئيس دونالد ترامب كونه جامع الأهميتيْن حيث هو المستشار الأقرب للرئيس كما أنه زوج إبنته حاله في ذلك مثل حال جبران باسيل في مؤسسة الحُكْم في لبنان.

في تلك الورشة تقدَّم حديث المال والإقتصاد على الأماني القومية والعلاقة السياسية وذلك تفادياً لإنتكاس المحاولة. وقال الصهر المستشار أمام الحاضرين من وزراء مال عرب ورجال أعمال وشخصيات سياسية دولية كلاماً يندرج مرماه مع نوعية ذلك الذي قاله الرئيس أنور السادات من على منبر الكنيست يوم 20 نوفمبر/تشرين الثاني 1977، بل إنه ما كان ليقوله وبإندفاع لولا الذي قاله السادات ثم أتبعه بإتفاقية “كامب ديفيد” مع مناحيم بيغن وبرعاية الرئيس جيمي كارتر يوم 17 سبتمبر/أيلول 1978 (أي بعد عشرة أشهر من زيارة السادات لإسرائيل). يومها جاء في خطاب السادات قوله مخاطباً الإسرائيليين ليسمع معهم أرباب المشكلة وبالذات أميركا وبريطانيا “أنتم تريدون العيش معنا في هذه المنطقة من العالم، وأنا أقول لكم بكل الإخلاص إننا نرحب بكم بيننا بكل الأمن والآمان. لماذا لا نمد أيادينا بصدق وإيمان وإخلاص لكي نحطم الحاجز النفسي الذي يشكِّل سبعين في المئة من المشكلة. لماذا لا نتصدى معاً بشجاعة الرجال وخسارة الأبطال الذين يهبون حياتهم لهدف أسمى، لكي نقيم صرحاً شامخاً للسلام يحمي ولا يهدد يشع لأجيالنا القادمة أضواء الرسالة الإنسانية نحو البناء والتطور ورفعة الإنسان…”. وحول القدس جاء في خطاب السادات “ليس من المقبول أن يفكر أحد في الوضع الخاص لمدينة القدس في إطار الضم أو التوسع وإنما يجب أن تكون مدينة حرة مفتوحة لجميع المؤمنين…”.

كان حامل “صفقة القرن” يرى أن بضعة مليارات وجرعة تطمين أميركية غير مضمونة الإلتزام في أي حال وتحليم الفلسطينيين ﺑ”جنة التسوية الإزدهارية” كفيلة بتذليل ما لم تذلله عملية السلام المصري ـ الإسرائيلي فالأردني ـ الإسرائيلي تليهما الخطوة العرفاتية التي عرفت ﺑ”إتفاقية أوسلو”. ومن هنا كان قوله أمام أهل المال المشاركين في تلك الورشة “إن الإتفاق على مسار إقتصادي لخطة السلام الفلسطيني ـ الإسرائيلي شرط ضروري للسلام وأن الإزدهار لن يتحقق للشعب الفلسطيني دون حل سياسي عادل. وأقول للفلسطينيين إن رسالة الرئيس ترمب لكم إنه رغم المعاناة فإن الولايات المتحدة تحاول مساعدتكم من أجْل مستقبل أفضل يُبنى على الكرامة وخلْق الفرص…”. وزيادة في المغريات قال إن الخطة التي يتولى تسويقها تسعى لضخ حزمة إستثمارات بقيمة خمسين مليار دولار على مدى عشر سنين وتسعى لإقامة بنية تحتية في الأراضي الفلسطينية وربْط الضفة الغربية وقطاع غزة مع تحسين الوضع الأمني في المنطقة. كما قال لصحيفتنا “الشرق الأوسط” إن “صفقة العصر” خطة إقتصادية “هدفها تحسين أحوال الناس وليست رشوة…”. وعندما زاد التوضيح بالقول “إن الفلسطينيين يفوتِّون فرصة بعدم إنخراطهم في الحزمة الإقتصادية التي تطرحها الولايات المتحدة” جاءه الرد من جانب الرئيس محمود عباس وأركان السلطة الوطنية الفلسطينية عالي النبرة ومرتفع السرعة جازماً بأن خطة كوشنير شبيهة بوعد بلفور، كما أن المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية محمد حسين أفتى “بتحريم التعاطي بأي شكل من الأشكال” مع “صفقة القرن” مستنداً في التحريم إلى أن الرئيس محمود عباس كان في يوم إصدار هذه الفتوى يحذِّر أمام جلسة لمجلس الأمن في نيويورك (الثلاثاء 11 فبراير/شباط 2020) للتصويت على مشروع قرار أعدته تونس وأندونيسيا ويندد بالخطة التي يتولى كوشنير تسويقها. وفي السياق نفسه هنالك التمسك العربي بمعادلة عبَّر عنها وسط الحراك الكوشنيري لتسويق الصفقة وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية عادل الجبير بعبارة “إن الفلسطينيين هم أصحاب القرار الأخير في هذا الأمر لأنها قضيتهم، وكذلك فإن أي شيء يقبل به الفلسطينيون سيقبله أي أحد آخر” مع التذكير الذي ينفع الذكرى وأصحاب مشروع الصفقة إذا هم إهتدوا إلى سواء الصيغة التي تنفع الذين عن التسوية العادلة متحيزون ويغدقون على الجانب الإسرائيلي عطايا دبلوماسية وجغرافية وكأنما هي من موجودات في صناديقهم الحديدية. والتذكير الذي نشير إليه يتصل بمبادرة السلام العربية التي سبق أن رفضتها إسرائيل ولم تُعرها الإدارات الأميركية المتعاقبة الإهتمام العملي تمهيداً للتبني إنسياقاً من جانب ثلاثة رؤساء وراء تحجر إسرائيلي أصاب السمعة الأميركية بخدوش وصلت إلى حد أن الرئيس محمود عباس قال بأعلى نبرة وأمام مجلس الأمن “لقد جئتُ إلى مجلس الأمن بإسم ثلاثة عشر مليون فلسطيني للتعبير عن الرفض القاطع والواسع للصفقة الأميركية، كما من غير المقبول أن تبقى أميركا وسيطاً وحيداً للتفاوض بين طرفيْ النزاع…”. وشجعه على رفْع درجة الرفض أن دول الإتحاد الأوروبي كما دول حركة عدم الإنحياز مزجت في رد فعلها على الصفقة بين “تقدير الجهود الأميركية” والتأكيد على حل الدولتيْن عن طريق التفاوض على أساس خطوط عام 1967.

الإصرار الأميركي على الصفقة أمر مألوف وشبه مفهوم خصوصاً أن مسوّقها هو صهر الرئيس وموضع ثقته. لكن ما هو مستهجَن أن على مَن يقوم بتسويق سلعة أو مبادرة أو صفقة تزيين محاسن عوائد ما يقوم بتسويقه. لكن ما حدث أن الإدارة الأميركية واكبت خطوات تسويق الصفقة بربط مساعدات أمنية من جانبها للسلطة الفلسطينية بتجاوب هذه الأخيرة مع مسعى الصهر كوشنير، مع أن عدم الربط كان ربما سيؤسس لمرونة في الموقف الفلسطيني.

بيننا وبين الموعد الذي سبق أن حدده كوشنير قبْل سنة (ابريل/نيسان 2019) بضعة أسابيع. فهو إستناداً إلى وعود أو معطيات أو لغرض في النفس الإنتخابية المتعلقة بتجديد الولاية الرئاسية لوالد زوجته الرئيس ترمب، ذكر أنه بعد عيد الفطر سيعرض خطة “صفقة القرن” قائلاً في حينه “إن الخطة ستتطلب تنازلات من كل الجانبيْن وأنه يجب أن يكون هنالك تفهُّم للخطة”.

قبْل هذا التحديد بأقل من شهر (الثلاثاء 26 مارس/آذار 2019) أغدقت أميركا ترمب على إسرائيل نتنياهو ما لم تفعله بهذا السخاء إدارة أميركية من قبل، بإستثناء رئاسة هاري ترومان. وحدث أن الرئيس ترمب إستقبل نتنياهو يوم الإثنين 25 مارس/آذار 2019 وبحفاوة بالغة وكرم ترمبي يفوق التعجب والإستغراب وأهداه بحضور أركان الإدارة حق إسرائيل في السيادة على الجولان واضعاً أمام الملأ الذي يتابع الفضائيات، توقيعه على هذه الهدية التي لا يملكها الذي أهدى وكذلك المهدى إليه. وكان منظر الحليفيْن ترمب ونتنياهو في الصورة المبثوثة يمسكان بالوثيقة التي تحمل توقيع ترمب في حد ذاته إضراراً بالسلعة التي يسوِّقها صهره. وهذه الهدية مع وعد بإهدائه مزارع شبعا ثم هدية إعتبار القدس موحَّدة بعد إعترافه من قبل (ديسمبر/كانون الأول 2017) أنها عاصمة لإسرائيل ونقل مقر السفارة الأميركية إلى هذه “القدس” زادت مهمة الصهر تعقيداً عربياً ودولياً. كل هذه التطورات كانت مثل مشروع بناء برج شاهق على أرض رملية. وفيما الطمأنينة تسود نفس كل من ترمب الآمل بجولة رئاسية ثانية ونتنياهو المطْمئن إلى أن ما جناه من إدارة حليفه الرئيس ترمب سينقذه من المحاكمة بتهم فسادية، بدأت “جرثومة العصر” كورونا التي إنطلقت من الصين تشق إجتياحها براً وبحراً وجواً ولا تترك لأي دولة مجال النجاة من أذاها. وفي ضوء هذا الإجتياح الجرثومي تراجعت معظم الإهتمامات السياسية وبات التركيز على إستيلاد لقاح وليس على أي مسائل أُخرى ومنها “صفقة القرن” التي كان كوشنير على موعد مع نفسه لطرحها بعد عيد الفطر وجاءت “كورونا” تجرف إمكانية تَجدد السعي لتسويقها، فضلاً عن أن “جرثومة القرن” تشكِّل حالة خوف على الحياة وعلى مقومات الكيانات لا فرق بين الخمسة الكبار والآخرين في سائر دول العالم. وهذا وضع لا يزول إلا بعد حدوث معجزة اللقاح الذي تتسابق على إنتاجه الدول التي كانت تتسابق على الفضاء ونهب ثروات الآخرين بعد الحرب عليهم كالذي جرى للعراق ثم كما الذي يجري في سوريا. وإذا نحن إفترضنا أن “كورونا” التي هي “جرثومة القرن” جرفت في جملة حالات جرْف حياتي وسياسي وإقتصادي ومالي “صفقة القرن” فإننا بهذا الإفتراض لا نغالي. وسيؤدي الفلسطينيون والأشقاء العرب والمسلمون صلاة العيد ويتبادلون التمنيات.

وأما “صفقة القرن” التي كان جنرال إسرائيلي أورد في مقالة له على موقع مجلة “فورين بوليسي” الأميركية أن هذه الخطة طُرحت قبل أربعين سنة، فإن النسخة الناسخة كما المنسوخة مجرد صرف نظر عن حقيقة أن أي إحتلال إلى زوال وأي دول وكيانات تقام بموجب وعد مثل الذي فعله بلفور وتصمد بموجب المساندة الأميركية التي بلغت مداها من جانب إدارة الرئيس ترمب للمتهم من قضاء دولته نتنياهو الذي يتقاسم ترؤس حكومتها مع خصمه الجنرال غانتس مآلها التحلل … ولو بعد حين.

Exit mobile version