عندما جاء نهاد المشنوق الى «الســفير» كاتباً مستقلاً فيها، كان مثقلاً بتجربة عريضة قبس فيها العلم في السياسة عن كبيرين يفتقدهما لبنان اليوم: أولهما الرئيس الراحل تقي الدين الصلح، وهو مدرسة قائمة بذاتها تخرج طلبة المعرفة بالتاريخ والأنساب وأحوال البلاد وأهل السلطان، والثاني هو الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي كان كلما ازداد معرفة بالأحوال والناس طلب المزيد من العلم وظل يسأل ليعرف أكثر حتى آخر لحظة في حياته.
وكان نهاد المشنوق الذي يعرف كثيراً لا يكفّ عن السؤال والاستفسار والمناقشة والمجادلة ليعرف أكثر، خصوصاً انه قد تعلم ان لا حدود في السياسة بين الكيانات والمصالح، وأن الأديان والطوائف ليست خارج دائرة الاستثمار بل لعلها التجارة الأكثر إدراراً للأرباح.
فقد رأى نهاد الناس ربي كما خلقتني، وهو واقف بباب السلطان… وهو رأى أيضاً السياسيين يبدلون المواقف والآراء والتحالفات، من دون أن يرف لهم جفن، طلباً لموقع في السلطة. رأى تصاغر الكبار، وتكابر الصغار مع تبدل الأحوال، ولأنه يعرف «النسخة الأصلية» فقد ظل يتعامل معهم على قاعدة حقيقتهم الأصلية، ولذلك فقد غلبهم الخوف منه على محبتهم له. وكانوا يتحاشون أن يستذكروا من الوقائع التي تزكيهم في عيون الناس، لأنهم يعرفون أنه يعرف «أصل الحقيقة»، ولأنه لن يسكت عن تحويرها إذا ما تجرؤوا على التحريف في حضوره.
عرف نهاد المشنوق أركان الثورة الفلسطينية من موقع «النصير»، وعرف السياسيين من موقع المراقب المتابع الذي له ذاكرة فيل، أما بالنسبة لأهل السلطة من السوريين فقد ظل قريباً على بعد، أو بعيداً على قرب.
وحين رحل تقي الدين الصلح في لحظة مأساوية شخصياً ووطنياً غرق نهاد المشنوق في حزن على البلاد وأهلها، وأخذ يبحث عمن يعوض هذا الركن الركين من فيلق المدرسة الصلحية في السياسة اللبنانية الذي يعرف موقع العروبة منها، وموقع العالم فيها.
… حتى التقاه رفيق الحريري فاختاره ليكون مستشاره الإعلامي المناكف، الذي سرعان ما صار مستشاره السياسي (بالإكراه) ودليله في بيروت (عاصمة العالم ) ومترجمه الخاص في «العلوم السورية» حتى بعد أن حاز الحريري الدرجة العليا فيها مزاحماً على المرتبة الأولى الأساتذة المعتقين كرشيد كرامي ونبيه بري ووليد جنبلاط وبعدهم الياس الهراوي فضلاً عن أولئك الذين يفضلون إدعاء الجهل حماية لمصالحهم الخطيرة التي ضمانتها الصمت.
وعلى امتداد عشر سنوات ظل نهاد المشنوق «يعارك» رفيق الحريري الذي أخذ يتعملق سياسياً، حتى تجاوز الدهاقنة، و«يشير» عليه وينبهه ويحذره من هذا المتحذلق أو ذاك، ويلفته إلى ضرورة الحذر وعدم التجاوز على طريق دمشق، ومواصلة التفكير في المقيم في قلب هدوئه العميق في قصر المهاجرين، الرئيس حافظ الأسد، ويحذره من أن يقترب أكثر مما يجب حتى لا يحترق ومن أن يبتعد أكثر مما يجب حتى لا يجمّده البرد..
بعد رفيق الحريري لم يكن سهلاً على نهاد المشنوق أن يتأقلم مع الواقع الجديد، سواء في لبنان أم في سوريا، فضلاً عن العواصم البعيدة… فقرر أن يطلب العلم في البعيد، البعيد، فاختار واشنطن لعله يرى منها أحوال العرب ولبنان بالذات، بوضوح، فذهب الى بعض مراكزها الثقافية السياسية، وعاد يقرأ كتابات «الخبراء» و«المستشرقين» وتلك الحفنة من الدهاقنة الذين يمزجون معلومات المخابرات بتحليلات المؤرخين.
… وهكذا فإن نهاد المشنوق يتقدم نحو الندوة اللبنانية باعتباره ثمرة اتفاق الدوحة، وان كان مرشح تيار المستقبل، أي انه نائب التوافق العربي ـ الدولي، بما يرضي فيه غرور «الاستقلالية» و«التفرد»، فهو القريب ـ البعيد، صبغ كرسيه بتراكم الخبرات المأخوذة عن أستاذين كبيرين، أولهما علّمه أن غنى النفس أبقى من الثروات جميعاً، وثانيهما علمه أن الثروات تعظم بقدر ما ينفق منها من اجل أن ينساها الناس..
وسيباري نهاد المشنوق النائب غداً نهاد المشنوق الكاتب أمام نهاد المشنوق المستشار دائماً، ومع تمني النجاح للزميل (السابق) فإننا نتمنى ألا تخسره «الســفير» كما خسرت من عبروا منها إلى النيابة قبله.