في آخر زيارة، قال لي نديم دمشقية الذي كنت أحاول أن أتعلم منه الحكمة، وأستمد منه المزيد من الإيمان بالعروبة مع الصلابة، في الموقف: لقد تعبت! أما العمر فأمره هيّن، لكن ما أتعبني هو اختلاف الناس باختلاف الأزمان والأحوال. لم أعد أعرف مدينتي، بيروت، التي أتشرف بالانتماء إليها والتي كانت المنتدى العربي والشارع الوطني. لم أعد أحب أن أذهب إلى القاهرة التي عشت فيها بعض أزهى سنوات عمري شاهداً على نهوض الأمة واستعادتها موقعها على خريطة العالم. لكأنما غابت مصر عن نفسها مع غياب جمال عبد الناصر. تعرف أنني لست من عبدة الأشخاص، لكنني كنت الشاهد على انبعاث المجد العربي مع هذا القائد العظيم الذي جعل القاهرة عاصمة كونية كبرى.
وقال نديم دمشقية الذي عرف العالم، وكان في عواصمه الكبرى سفيراً للعرب جميعاً وليس للبنان فحسب: إن العرب قد أضاعوا مكانتهم في الدنيا حين أضاعت مصر الطريق فانفردت بصلح مهين مع عدوها بشروطه. لقد أصيبت مصر في قلبها قبل دورها فتصاغرت، وهي الكبرى، حتى كاد أهلها ينكرونها… وليس من يعوّضها!
صمت قليلاً وران الحزن على وجهه قبل أن يضيف: إن ما آلت إليه حال بيروت، التي كانت الوجه الثاني للقاهرة العظيمة، هو نتيجة لما أصاب مصر. متى غابت مصر سترى العرب قبائل وعشائر وطوائف ومذاهب، وستضيع القضية.
كان نديم دمشقية قد عوّدني على زياراته التي كنت أجد فيها فرصة لأن أتعلم منه، وهو العلامة العارف بشؤون الدول وأحوالها. وكنت أزوره بين الحين والآخر لأسأله الرأي وأستشيره في ما يشكل عليّ من مواقف تجاه التطورات.
وفي زيارات أستاذنا محمد حسنين هيكل، القليلة إلى بيروت، كان أول من يسألني عنه نديم دمشقية ليطمئن عليه قبل أن يهتف له ليتفق معه على موعد لزيارته.. وكان الموعد يصير اثنين بل ثلاثة. وكان اللقاء بين الرجلين متعة لأي ثالث، خصوصاً متى طفقا يحللان الأوضاع ويستشهدان بما كان يمكن أن يجري لو أن صديقهما الكبير المشترك جمال عبد الناصر ما زال معنا.
وكنت أصغي إليهما منتشياً وهما يستعيدان الذكريات الحميمة مع الكبير الذي رحل وما غاب وترك بصماته على مرحلة كاملة من مراحل التغيير نحو الأفضل في الوطن العربي جميعاً، والتي تكفلت «الثورة المضادة» بطمسها.
سنفتقد الحكمة المستمدة من التجربة العريضة المعززة بالعلم والدراسة.
لقد خسرت بيروت برحيل نديم دمشقية بعضاً من روحها، فضلاً عن كونها فقدت واحداً من رجالاتها أعطى أكثر بكثير مما أخذ.
وخسرت الدعوة للتغيير والنضال من أجل وحدة الموقف والعمل من أجل القضية الفلسطينية خاصة، كبيراً بين الذين وعوا مبكرين الخطر الإسرائيلي بأبعاده الدولية الكاملة.
رحم الله نديم دمشقية وعوّض العرب ولبنان وعاصمته الأبية بالذات بيروت خــسارتنا فيه، وإنا لله وإنا إليه راجعون.