يعرف “الخاصة” أن رشيد درباس، المحامي في اوقات الفراغ إلى حد تسلم منصب نقيب المحامين في الشمال مرتين، حتى الآن، والكاتب المميز حين يأخذه الانحراف إلى النثر، هو شاعر بكل معايير الابداع… ثم انه ناقد ادبي يضحك الثكالى، اما في رثاء الأحبة فيبكي الحجر.
…وما أن استعاد “ابو توفيق” حريته مغادراً الموقع المستعار في وزارة الشؤون الاجتماعية في الحكومة السابقة حتى عاد إلى اوراقه المخبوءة، شعراً ونثراً، رثاء وتنويها، مختاراً من نقدياته المقيد ضد مجهول.
وعبر القراءة الأولى اخترت مرثية تختلط فيها الصداقة بالموقف السياسي، والاعتراض كموقف مبدئي على القتل، إلى استعادة لتاريخ نضال رفيق العمر، جورج حاوي، الامين العام الاسبق للحزب الشيوعي في لبنان، وكذلك للكاتب والمفكر المميز سمير قصير، وقد اغتال ايدي الشر المناضلين بالموقف والكلمة – بمعزل عن الوجهة- في زمن الفوضى المسلحة التي نأمل أن تكون قد انتهت..
هنا المرثاة التي يمكن اعتبارها مضبطة اتهام… ضد مجهول معلوم، او معلوم يفضل الكل أن يظل مجهولاً لنقل التهمة من مشبوه إلى آخر.. وما أكثر المشبوهين في زمن الردة التي يبدو بلا نهاية.
لأمر ما جدعوا عمر قصير
ولسعت الافعى الحاوي
“كفى المرء نبلاً ألا تعد مآثره..”
هذا ما كتبته غداة الغدر وقلت أيضاً..
لأمر ما.. جدعوا عمر “قصير”..
ولأمر ما .. انسلت الأفعى ولسعت “الحاوي” في خاصرته وهو البارع في ترويض الافاعي واتقاء سمومها..
لأمر ما.. نزفت خاصرة الوطن ألمع رجالها…
كنا نمسك بأيادي ابنائنا لننقلهم إلى مدراسهم بين القذيفة والقديفة..إلى أن اكبروا فصاروا يمسكون بأيدينا لمساعدتنا على التنقل بين الجنازة والجنازة،
فكأننا بهذا نودع عمرنا على “اقساط شهرية” هي جثث أصدقائنا..
كان جورج مناضلاً نهماً ولهذا جاء موته نهماً جداً..
لقد قتلوا هذا الغني الملتبس بكلفة قليلة ومردود كبير هو الهلع الذي اصاب الرجال والأجيال لأن هوية الشهيد الجديد بالنسبة اليهم اصبحت ملتبسة كثيراً..
كتبت غداة استشهاد جورج في “السفير” مقالاً اتساءل فيه أن كان اغتياله تصفية حساب قديم ام فتح حساب جديد،
أظن الآن. انه وللأمرين معاً جدع عمر “قصير” ولسعت الأفعى خاصرة “الحاوي”..
كفى جورج أن يكون مناضلاً اممياً مرموقاً، وقائداً عربياً عنيداً، ورائداً لبنانيا عابراً للمناطق والأحزاب وكفاه نبلاً أنه بقي حتى آخر ضوء في عينيه مصراً على عبور الاجيال… ذهاباً واياباً.
كانت بيروت تحترق بأطنان القذائف الاسرائيلية، وكان جورج يتنقل مع محسن ابراهيم وبقية الرفاق في الادوار السفلية بخفة الفهود، ليعلنوا المقاومة ضد الاحتلال، وليصبح هذا البيان راية خفاقة فوق الادوار العلوية في ديار العرب.
عندما انفجرت بنا الشاشات، واصابنا الخبر بشظاياه المفجعة، وتحول جورج حاوي في لحظة رهيبة، من قامة عملاقة بالغة الحيوية، إلى جسد هامد محمول على محفة، تأكدت أن عينيه المغمضتين، لم ينطفئ في غوريهما البريق، وأيقنت في نفسي أن أرقى ما يرتقي اليه مناضل من اجل قضية، هو أن يصبح قضية. ولهذا، فإننا في هذا اللقاء، لا نحيي ذكراه، بل نحيا في قضيته التي تتلخص في جملة بسيطة هي النضال من اجل دولة ديمقراطية لبنانية عصرية تكون شرفة العروبة على بحور العالم.
من هنا فان أبا انيس اللبناني الجبلي الاصيل، تجلى وجهه العربي بأنقى الصور، لأنه كان يؤمن أن هذا الوطن هو حاجة عربية في الانفتاح والثقافة والديمقراطية والحفاظ على الضاد، ولأنه في الوقت عينه بضعة من نسيجها ونفحة من هوائها، وعلم من حضاراتها التي تركت بصماتها في كل مكان.
يا أبا انيس،
أحيي فيك تفانيك في سبيل فلسطين، منذ ساهمت في تصحيح الخطأ التاريخي الذي حّملته الستالينية للحركة الشيوعية العالمية، التي توهمت يوماً أن دولة اسرائيل ستكون نموذج الديمقراطية في الشرق الاوسط، إلى انخراطك في المقاومة واعلانك الشجاع الذي اثبت رفاقك واقعيته بأن المقاومة الوطنية ستقض مضاجع العدو، فكنت من اوائل الرواد الذين قالوا بالمقاومة من اجل الحياة وبالشهادة من اجلها ايضاً، وكنت من اول الملتحمين مع الاسرائيليين وعملائهم في تلك الغارة النوعية على اذاعة صوت الامل التي سطرت ملحمة كانت مرحلة في مسيرة التحرير، حيث انسحب الجيش الاسرائيلي بعد أن اقنعه شعبنا أن كلفة خسائره اكبر مما جناه من الاحتلال، وان ما عّول عليه من تعاون لبناني، تقّزم إلى حفنة تافهة من المنبوذين، فالنسيج اللبناني اظهر من المناعة ما يستحق معها أن يعيد بناء دولة وأن يضع حداً للفرص الضائعة التي يجري اجهاضها في هذا البلد.
ولكن لا يجدر بنا ألا نستذكر في هذه المناسبة كيف مزقك الألم عندما رأيت رفاقك من رجال الفكر المقاوم النادرين يسقطون في غير ساحتهم، كأني بمن جندلهم حاول أن يطعن المقاومة في نخاعها ليحولها إلى وجهة نظر يختلف عليها بدلاً من أن تكون محط الاجماع ومعقِد العزائم.
أيها الأمين العام،
لم نعرف لدى الانظمة الحزبية الحديدية اميناً عاماً يغادر موقعها الا في جنازة مهيبة حيث كانت اخبار عجزه وشيخوخته ومرضه مطلية بالأصباغ والمساحيق. فيما انت تستقيل بملء ارادتك وفي عز حيويتك وشبابك ونضحك، ولقد قلت لي يومها أنك أقدمت على هذا رغم ما تتمتع به من تأييد اكثرية ميكانيكية داخل القيادة والقاعدة معاً، ولكنك أردت أن تكسر القوالب الكلسية وتزيح الصدأ عن الفكر والتنظيم وتضخّ في حزبك دماءً جديدة، وتفتح في منظماته شبابيك التفكير الحر ولكن الحزن اصابك عندما وقع الاختلاف فأقمت من هيبتك وتاريخك وشخصيتك جسراً وطيداً من اجل التفاهم على حدود لا بد منها يقينك أن تشرذم الديمقراطيين في هذه الظروف البالغة الخطورة، ترف في غير اوانه، او أن تهتك الوعاء التنظيمي الديمقراطي غير الطائفي من شأنه أن ينبذ هؤلاء الديمقراطيين إلى طوائفهم ومذاهبهم ويعيد لبنان إلى وهدة العبثية حيث يحاول كل حالم أن يفسر منامه المريض عندنا وعلى حسابنا.
لا ينسى شعبنا، انه في عز الانقسام الطائفي الدموي، استطاع الديمقراطيون أن يحولوا دون اغلاق الطوائف على اهلها بل فتحوا مسارب بينها، ولم يسمحوا بهذا أن يأخذ الصراع ذلك العنوان البغيض، ويسجل لليسار أن مناطق وجوده كانت ذات اختلاط حر، وأنه استطاع لفترة طويلة كبح التفلت الطائفي إلى أن أصبح بعد الاجتياح ضحية من ضحايا هذا التفلت.
اليوم يتراجع الفكر الوطني، وتضمحل التنظيمات غير المنتمية طائفياً، وتشيع العبارات الفاقعة اللون والانحياز، حتى صار المرء يُحار بالبحث عن قاسم مشترك يجعل اللبنانيين يتحاورون من غير نفور او نشوز او عداء ملفق ومخلق يكاد يفوق العداء الاصلي.
أين نحن الآن مما يجري، وكيف لنا أن ندلي بما عندنا من غير خشية أن يسلخنا عن تاريخنا السالخون ويدفعونا إلى مستنقعات، نأنفها كأننا المعتزلة الذين حشرهم الاشاعرة في اقماع السمسم.
يا جورج العربي، لو قلت لك اليوم إن الدولة العنصرية المتجبرة تقوم تحت أنظار العالم وسكوته بل وتبريره بذبح الشعب الفلسطيني وتدمير بناه، ومحاصرة ملايين الفلسطينيين في الضفة وقطاع غزة، وتقتحم سفن المرور البريء هازئة بالقانون الدولي وبالمحافل الدولية، لأجبتني إن العرب هانوا على اعدائهم مذ هانت كرامة الإنسان العربي على الحكام والأنظمة، ولقلت لي أيضاً، إذا كان خطر الاقتلاع والترحيل لا يوحد الفصائل الفلسطينية، فتحت أي ظرف سيتوحدون.
هتفت بالأمس، عند استشهاد كمال جنبلاط: ما زال حياً فينا وسننتصر، وقدت الصفوف إثر استشهاد رفيق الحريري، ثم انضممت إلى القافلة، ليهتف لكم الشعب:
“ما زلتم احياء فينا..
فهل ننتصر؟”
لقد بلونا البلايا التي مرت على لبنان منذ العام 1948، فعاقرنا بعضها من دنان ذاكرة الطفولة، وجاذبنا أخرى بنزق الشباب، ولم تنفع حكمة الكهولة في اتقاء شرورها، ولكن ما وصل اليه رهط من جيلنا، وفي مقدمتهم جورج، هو أنه لو دامت تلك الشدائد على بلد اخر طوال تلك الحقب، لدمرته تدميراً، وجعلته اثراً بعد عين، ولكن هامش التنفس الذي تكون مع انشاء الدولة، شكل مناعة عاصية، وحصانة واقية، فهل يدوم ذلك الهامش ليؤمن استمرار مرور الاوكسجين إلى الشُعَب الهوائية المستطرقة، ام انه النكوص الذي يرد كل مذهب إلى رئته الخاصة.