ذات يوم من أيام شهر نوفمبر من العام الماضي بعث زميل من استانبول بصورة مأخوذة للتو في أعقاب لقاء جمع ثلاثة رؤساء. أدرك أن هذا اللقاء ربما كانت له أهمية عندي و كان إدراكه في محله. الصورة التي وصلتني كانت في حد ذاتها إشارة صريحة وواضحة إلى أن الشرق الأوسط لن يعود إلى ما كان عليه قبل نشوب ثورات الربيع العربي. ظهر في الصورة رجب طيب أردوغان رئيس تركيا والسيد حسن روحاني رئيس إيران وفلاديمير بوتين رئيس الاتحاد الروسي. ثلاثة ما كان يمكن أن يجتمعوا قبل عشر سنوات ليتشاوروا ويقرروا في شأن مستقبل الإقليم.
لم يكن خافيا أن بعض المحللين في المنطقة كانوا في انتظار لقاء على هذا المستوى بين قادة الأقطار الثلاثة إذا استمرت مهمة السنيور دي ميستورا مبعوث الأمم المتحدة لا تبارح مكانها، وإذا استمر الرأي العام العالمي منكرا مسئوليته عن الكارثة السورية، وإذا اكتمل انسحاب العرب من الساحة بعد أن فعلوا فعلتهم النكراء ضد سوريا شعبا ودولة وحكومة، وإذا نفذت الإدارة الانتقالية في واشنطن وعد والتزام الرئيس باراك أوباما الخروج من معظم سوريا في أسرع وقت ممكن وبأقل الخسائر الممكنة، وإذا استمرت الصين تتقدم بخطى حثيثة نحو تنفيذ مشروع طريقي الحرير والحزام والاقتراب من الشرق الأوسط لذاته كونه الموقع المركزي في رحلة أي قوة أسيوية تسعى للوصول إلى أسواق ومواني أوروبا وشبكة النقل التي تخدمها.
***
عبرت صورة القمة الثلاثية تعبيرا جيدا عن أمور كثيرة أكثرها تنبأ باحتمال وقوعه معلقون ومتابعون عديدون لتطورات قضايا الشرق الأوسط. عبرت الصورة وبصدق عن حكاية، أو قل، مأساة فشل عنيد ومتكرر يندر أن يشهد مثلها إقليم في العالم. فشلت حكومة دمشق في فهم ثورة الربيع السوري وتعاملت معها بأقل درجة ممكنة من المرونة والحنكة بل والحكمة. فشلت فوقعت هي والدولة والشعب فيما وقع فيه غيرها ممن فشلوا في مواقع عربية عديدة. فشل كذلك نظام إقليمي أخطأ فأسلم قياده لدول عربية تكره التغيير سواء اتخذ هذا التغيير عنوان الثورة أو التطور التدريجي. تدخلت هذه الدول تحت إلحاح رغبة أو شهوة عميقة للانتقام من شخص أو نظام.
تدخلت مستخدمة قوى ظلامية تحت عنوان الدفاع عن ثورة تكرهها في سوريا. فشلت أيضا الولايات المتحدة الأمريكية. راحت تستعجل التوصل إلى اتفاق مع إيران لتخلص بنفسها وبموازنة دفاع مستمرة في التناقص وبمبدأ تأخر تنفيذه يقضي بتحويل الاهتمام الاستراتيجي الأمريكي إلى شرق آسيا. قررت فيما يبدو أنها لم تنجز شيئا ذا قيمة في المنطقة العربية على امتداد سنوات وأن المنطقة، بنزاعاتها العنيدة وأوضاعها السياسية المناهضة للتحضر والديموقراطية وتداول السلطة، لم تعد تستحق الاهتمام باهظ التكلفة بها. فشلت أيضا الدول العربية مجتمعة ومتفرقة في حل قضية فلسطين حلا مرضيا لإسرائيل وأمريكا ودول الغرب عموما. وفي الوقت نفسه فشلت في حل القضية حلا مرضيا للفلسطينيين والرأي العام العربي. بمعنى آخر عجزت عن الفعل. والعاجز عن الفعل في عالم الأزمات خطر على نفسه وعلى حلفائه ولا بد لمن بيده القول والفعل استبداله عند أقرب فرصة ممكنة أو تجاوزه كلية إن أمكن. أظن أننا نعيش هذه الأيام مرحلة وقف كثير من اللاعبين العرب غير الفاعلين واستبدال لاعبين فاعلين محلهم حتى وإن كانوا غير عرب.
***
لسنا في حاجة إلى تفسير اللقاء الثلاثي الذي جمع رؤساء إيران وتركيا وروسيا بأوسع أو بأضيق مما يستحق. هذا اللقاء، في حده الأدنى، تحالف وقتي ومرن ولقضية أو قضايا محددة. وهو، في حده الأقصى، بيان تاريخي يعلن سقوط العهد العربي المعتمد على الهيمنة الغربية. انسحبت أو فشلت أو سقطت الهيمنة الغربية فتدهور حتى سقط هذا العهد العربي. على أطلاله يستعد للحلول محله عهد آخر غير عربي، عهد متعدد الاعراق واللغات والمذاهب ومعتمدا على دولة عظمى غير غربية. لاحظنا ونلاحظ كيف أن كل الأطراف في عجلة. أطراف العهد العربي تستعجل بناء تحالفات مع دول أوروبية جميعها بدون استثناء غير مستعدة لاتخاذ إجراء يمكن أن يبتعث حربا باردة أخرى مع روسيا. إسرائيل تتصرف تصرفات الدولة الواثقة كل الثقة من أنها على بعد برهة لا أكثر من لحظة إعلان الانتصار التاريخي على العرب. هذا بالضبط ما يردده الآن ضباط كبار في الجيش الإسرائيلي وقادة سياسيون في حزب الليكود وكبار صانعي القرار الصهيوني الأمريكي وبعض قادة “المحافظون الجدد”. لا أحد حتى الآن يستطيع التكهن بموعد وشكل ومضمون إعلان النصر اليهودي النهائي ولا بردود فعل القادة العرب عليه. أتصور أن قادة إسرائيل لن يراعوا ساعتها حساسيات زعماء عرب أوغير عرب، فالنصر الإسرائيلي الجديد لا يخضع لاعتبارات الحروب العادية التي تنشب بين بشر عاديين، النصر الجديد نصر نهائي يتجاوز الزمن الراهن إلى أزمنة الكتب المقدسة.
***
أتوقع أن تكون الأيام والأسابيع القادمة حيوية بالنسبة للتحالف الوقتي والمرن الذي اتفق على إقامته القادة الثلاثة بوتين وأردوغان وروحاني. وأعتقد أنهم سيحاولون إثبات قدرتهم على تطويره وتمكينه ليصبح حلفا أقل مرونة واكثر طموحا. أعرف أن القادة الثلاثة يحوزون على درجة عالية من البراجماتية. هذه الدرجة العالية تسمح لهم وللحلف الذي شكلوه بابتكار صيغة تعامل مع الدولة الإسرائيلية قبل إعلان النصر النهائي وبعده. أكاد أجزم بأن ما يمكن أن يشغل هؤلاء القادة في المستقبل لن يبتعد كثيرا عن التنسيق فيما بينهم وبينهم وبين إسرائيل والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا في مسائل تتعلق بأنشطة القواعد العسكرية العديدة التي أقيمت وانتشرت في البحر الأحمر والأبيض وإقليم الخليج. أظن أيضا أنه سوف يشغلهم رسم الحدود الفاصلة بين مناطق نفوذهم وسيطرتهم في الإقليم.
***
لن يخفى على أحد المدى الذي ذهب إليه القادة الثلاثة في الأيام الأخيرة لتصحيح مسارهم أولا بأول، يعلمون حق العلم أن انفراطهم وبال مؤكد عليهم جميعا. صحيح أن لاخوف من عودة الغرب فدول الغرب لا تريد أكثر من أن يكون لها موقع قدم في مكان ما من الإقليم تراقب منه وتستفيد. الخوف كله هو من لعنة الفشل التي لاحقت الآخرين وأصابت مباشرة وبصفة خاصة هذه الدول الثلاث في كل مرة حاولت الانغماس في تفاعلات هذا الإقليم.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق