عندما يبدأ الناس بالكلام عما بعد الحداثة، فمعنى ذلك أن الحداثة بلغت أقصى تطورها، وأن مرحلة جديدة قد بدأت. تعني الحداثة فوق كل شيء الفردانية، وتعني أن الضمير الفردي هو المرجعية (فردية الخيار، والسلوك، والتفكير) في مواجهة المجتمع والدولة؛ ومعنى ذلك أيضاً أن الفرد قد تحرر من تبعيته للعائلة الكبرى، وللعشيرة، والأثنية. الانتماء صار فقط للدولة من دون المرور بتشكيلات اجتماعية وسيطة.
ما بعد الحداثة يعني التفكيك: تفكيك النص، تفكيك الواقع، تفكيك الإنسان. لا بدّ من تحليل النص كي نفهمه؛ لا بد من تحليل الطبيعة والبيئة عموماً كي نفهمهما؛ أما تفكيك الإنسان، فالخوف أن لا يبقى منه كيان شامل حي ذو روح تبعث الإرادة والفعل. لا يوجد إلا الإنسان المنتظم في تعدد هوياته. تفكيك الإنسان يصير ممكناً عندما يتم التمكن منه والسيطرة عليه. عندما يقف وحيداً في الكون لا متكأ له. الأرض سحبت من تحت رجليه. والسماء لم تعد سوى مجرات من النجوم. ثقب أسود يشد كل شيء إليه؛ كل شيء يقع فيه. يجرّد الفرد من كل هوياته، وصفاته، وسماته. يصير رقماً يباع ويشترى لدى شركات قواعد المعلومات. يُراقب، تُحصى أنفاسه، تؤخذ بصماته، تُقاس بؤرة عينه. هو كائن حي. لكن المعلومات عنه في خزان كمبيوتر ذي حصيلة تقرر مصيره. الكرة الأرضية أشبه بحديقة كائنات بشرية مصنفة؛ حول كل صنف سياج. إذا لم تكن أنت من أنت فإن قراصنة الكمبيوتر يقررون من أنت. يحددون هويتك. ما تظنه أنت هو هوية. (هوية مِن هو آخر) يمثل حقيقتك. أنت في الحقيقة هو. هو أداة أصحابها مستعدون ليضعوها مكانك. أنت تصبح في مجال اللا موجود. يمكنك أن تمضي حياتك تبحث عن هويتك. عفواً، تبحث عمن أنت في الحقيقة؛ لأن هويتك (مِن هو) تعبر عن هو لا عن أنت. أنت سجل في حاسب آلي يسيطر عليه الأخ الأكبر. وما تظنه أنت الذي يمشي، ويروح، ويجيء، وينتج، ويستهلك، ويقوم بكل الواجبات البيولوجية، هو المرموز عنه في الحاسب الآلي. قريباً سوف يصير المرموز عنه رمزاً، والحقيقي هو ما في الحاسب الآلي. ألم يبدأ المال رمزاً ثم صار السلعة التي يرمز إليها، مع حركة منفصلة عن المال. وصارت حركة المال هي في أصل الوجود البشري. وما يُسمى السلعة أشبه بما يماثل العظام التي تُرمى للكلاب. مع ارتفاع المال في سلم الوجود انحدر مستوى الوجود البشري. رَخص ثمن الوجود البشري. نحن أرقام بالنسبة للمال. المال ليس مجرد أرقام. هي سيطرة تضيق الخناق علينا.
تفكيك الإنسان فهمته داعش خطأً. فككت أوصاله بالسيف وعلى الشاشة. التفكيك الحقيقي، لأنه شامل، هو إيداع الميغابيت عن كل فرد في الحاسوب، وخزانه، ومحركه. أنت لا يمكن تخزينك إلا مفككاً، لكنك تبقى على الأرض كاملاً. كلما شطح بك هاتفك الذكي الذي اشتريته، وظننته ملكك، وظننت أن إرادتك تقرر ما يجري له، يظهر لك اسمك في أعلى الهاتف أو من يناديك باسمك قائلاً افعل كذا وكذا. إذا لم تفعل ستبقى وحيداً، وراء الركب، لا تعرف أين، ومتى، وكيف، ولماذا. ستتجاوزك المعلومة التي صارت معرفة. المعلومة الحقيقة اختفت معك أنت عندما اختفيت من عالم الحقيقة، وصرت حقيقة افتراضية في الحاسوب الآلي. حقيقة افتراضية ترمز الى كائن موجود، اويظن أنه كائن موجود.
نترحم على مرحلة الحداثة. حين كان كل منا ما يزال موجوداً، يقترح، ويقترع، ويُعطى حقوقاً، ويحسب حساباً بالفضالة، ويُسمع لرأيه، ويُخاف من مظاهراته، ويُخشى من غضبه، ويتبوّل السادة في هدومهم عندما يرون ممثل نقابته. أسقطت الرأسمالية النيوليبرالية رأسمالية الشيوعية ورأسمالية الليبرالية في وقت واحد عام 1989. خرجت النيوليبرالية منتصرة. وظهر الأخ الأكبر الذي يأمر، وننفّذ أوامره، ولا نراه. ما نعيشه اليوم أفظع بكثير مما تخيّله جورج أورويل في رواية “1984”.
يقف الإنسان وحيداً مشلعاً لكنه مجموع الأوصال. حقيقة في بنك المعلومات. وهو ما يرمز الى هذه الحقيقة. ما زال يحمي نفسه بالذكاء حتى إشعار آخر. سوف يتطوّر الهاتف الذكي، أو سيصير غير لازم. إذ سيعتلي خشبة المسرح الروبوت الآلي الذكي جداً، والإنسان المنسوخ، والإله الذي حكموا عليه بالموت ليُعاد إحياؤه لاحقاً كرهينة بيد أصحاب السلطة؛ إله المال سيكون رهينة لدى السلطة.
طوائف، وقبائل، وإثنيات، وأمم يظنون أنهم يقبضون على شيء. يخوضون الانتخابات، ولا يدري هؤلاء المساكين أن ما سعوا إليه هو قبض الريح. تتشكل، أو سوف تتشكّل، كل هذه الجماعات. لا وجود لهم إلا بالشكل؛ هذا إن وجدوا بعد استخدام القنابل النووية.
في زمن التفكيك ليس أنسب من الأصوليات، كي تفكك ما وصل إليه الإنسان من تقدم، وما وصل اليه الفرد من وجود له قيمة، أو هو مصدر القيمة. الأصوليات توهمنا أنها تعيدنا الى ما قبل وقبل ما قبل، وهي فعلاً تجعلنا نقبل ما بعد. الأصوليات، دينية أو غير دينية، تعيدنا أو تتوهم أنها تعيدنا الى أصل ما، الى زمن كنا نعيشه وكانت له أمجاد. تنشأ له ذكريات. الذكريات عن الماضي السحيق موضوعة. يقبل أدعياء الشرعية الماضي الموضوع (الوضعي)، ولا يقبلون القانون الوضعي. الما قبل وما قبل القبل هو في الحقيقة جوهر ما بعد الحداثة. هي تخترع الما قبل وما قبل القبل.
في زمن التفكيك وما بعد الحداثة، يفقد البشر أهميتهم. فقدان الأهمية لا يصدر عن نظام وحسب؛ ليس في الأمر مؤامرة. فقدان الأهمية البشرية ينجم عن فقدان أهمية الذات التي لم تعد ضرورية مع فقدان الموضوع أهميته، ومع انهيار الحداثة. لا يبقى للذات إلا أن تبحث في حناياها، وتحوّل العلم الحديث الى مجرد علم سيكولوجي. داخل الذات يُقرر ما هو موضوعي. القرار لم يعد موضوعياً. ولا هو في الذات ومنها. هو في مكان آخر. المكان الآخر ليس سوى كائن خارج الطبيعة. فقدت الميتافيزيقيا أهميتها لأنها كانت تبحث فيما يتعدى الطبيعة. في الأسباب والنتائج الحاصلة عما هو طبيعي. لم تكن الميتافيزيقيا خارج الطبيعة. ما هو خارج الطبيعة خارج الكون، وخارج عالم الكون والفساد، وخارج عالم الفكر والمثالية. هو شيطان ساخر يضع على كتفيه جبة الإله.
فقدت الذات أهميتها عندما استعلت على موضوعها، وعلى الطبيعة. أصبحت فرداً ضائعاً، ومذهولاً، وبائساً، وفاقد المعنى. المعنى هو أن تفسّر الشيء بمعنى آخر. لم يعد هناك معانٍ آخرى. فقد كل شيء معناه؛ فقدان نفسره بما يتعداه. وفقدان المغزى أيضاً. عندما يقف الفرد وحيداً، منبوذاً، متشائماً، فاقد الأهمية بالنسبة لنفسه وبالنسبة للعالم، فإنه يفقد المغزى. المغزى هو أن تفسّر القصة بما يفيد من عبر وتجارب. لم يعد للتجربة معنى. لم يعد وراء التجربة عبرة. تنزل الى المختبر ولا تجد إلا النتائج التي يجب أن نفترضها. شركات الأدوية لا تريد منك إلا أن تتساوق تجاربها مع سلع تفيدها في التسويق. وشركات السلاح تريد منك البقاء في منزلك أو في مركز القيادة وتوجه طائرة من دون طيار لقتل أناس لا تقع العين المجردة عليهم، لبعدهم ألاف الأميال. هم نقاط على الشاشة. حقيقتهم على الشاشة. موتهم على الأرض حيث هم. الحقيقة غير ما يجري على الأرض. سلخت الحقيقة عن الوجود. الحقيقة عند القيادة العسكرية. الشيطان الأكبر يقرر من يحيا ومن يعيش.
الإنسان الفرد الذي لا متكأ له يريد ملجأ. لا يرى غير الله الذي لا يستطيع أن يراه. يتعلّق به. يريد من ينقذه. تنتشر الأديان الخلاصية بعقلانية غير التي تعودناها، أو استوردناها، أو ما كنا نتوقعه. ينخرط الناس في الكون عن طريق دين غير ما تعودنا عليه. مرجعيته القراءة الحرفية للنص. فرد مذعور لا يريد سوء فهم لحرف واحد مما أُنزل في كتاب الله، سواء كان القرآن أو الإنجيل. بين الأصوليات الثلاث؛ الإسلام والمسيحية واليهودية، الأصل يهودي. اليهودي يحق له التفسير، والتأويل، والمخالفة على هواه. يمتلك حقوق الملكية الفكرية.
يعود هذا الإنسان الفرد المشلّع الى الانتماءات الأولية (العائلة، والعشيرة، والإثنية). تنتشر الحركات الانفصالية. تُلقى الملامة على الدولة لا على النظام الاجتماعي الاقتصادي، كما كان الأمر سابقاً في عهد الليبرالية، والموضوعية، والنضال الشيوعي. تتركز الحركات الانفصالية حول البحر المتوسط، في شماله وجنوبه، بانتخابات ديمقراطية أو غير ديمقراطية. مع رفض الدولة تنتشر الفاشية، لكنها فاشية لكيانات صغرى أقل من دولها. ما يسمونه شعبوية هو حركات شعبية تناضل في سبيل مطالب انفصالية ما اعتدنا عليها، وما اعتدنا تأييدها. عندما تتهدد الدولة، كإطار ناظم للمجتمع، تتفشى الفاشيات على شكل هويات صغرى محلية. الكيان السياسي الكبير (إيطاليا، اسبانيا، الجزائر، سوريا، العراق) لم يعد مفيداً. يريدون الأرض المفيدة فقط.
تنتشر الحركات الانفصالية في أراض كانت مواقع مركزية لامبراطوريات مترامية الأطراف، تنتشر حول الكرة الأرضية (رومان، اسبان، عرب، أتراك، ايرانيون، الخ…). ما عاد يهم التاريخ. لا تلعب الذاكرة التاريخية، ولو مختصرة، دورها في وعيهم. الماضي الذي يقررونه هو التاريخ بالنسبة لهم، لا التطوّر الاجتماعي الاقتصادي السياسي. النظام الكوني حشرهم وأفقرهم. من منهم لا يهاجر تأتي الهجرة إليه. تثار العصبيات المحلية. هذه ترفض الاندماج فيما حولها، ما دام لها إله تندمج فيه. أضغاث أحلام لكنها تحركهم.
ظن قادة الحرب العالمية الثانية أنهم أرسوا السلام بقواعد رست على البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية. وجدوا بعد ثلاثين سنة ضرورة لفكرة ارتباط العملة بالدولار. لجأوا للعولمة باستخدام هذه الآليات الثلاث. عولمة ظنوا أنها توحّد؛ إذا بها تذرّر. والحبل على الجرار. مركز هذا التطوّر البحر المتوسط والأراضي المحيطة به.
مع تكنولوجيا التواصل (التفاصل) الاجتماعي يتذرّر المجتمع، ويتشلّع الفرد، وتصير الديمقراطية طريقاً الى الفاشية. مع التذرّر والتشلّع، تنتشر الحروب الأهلية. هي الآن مركّزة في منطقتنا. الآتي أعظم.
تنشر بالتنسيق مع موقع الفضل شلق