هذه ازمنة رثة وفادحة. هذا عصر هجر فلسطين. هذه امة منكوبة بمذاهبها. هذا وطن للآخرين. هذه بلاد يستبيحها الدم الحرام. في هذا المنعطف السحيق، لا مكان فيه لحبيب الشرتوني ونبيل العلم وأحمد قصير وسناء محيدلي ولكل هذه الاسماء الطوباوية السالفة. لقد أفل الزمن الفلسطيني. بتنا نحتفل برئيس مجلس الامة الكويتي الذي تجرأ على طرد المندوب الاسرائيلي من محفل دولي. ليس عندنا أفضل من هذا. بتنا في الدرك الاسفل. لا انحطاط يشبه لحظة السقوط الابدية هذه. حكم الاعدام على الشرتوني، لم تصدره محكمة. المحكمة نطقت بحكم مصَّدق عليه من حقبة امة مهزومة منكسرة وقضايا منفية.
لا تهويل في ما كُتب اعلاه. فنفترض لبنان بصيغة أخرى. يصعب ذلك كثيراً. المسألة ليست بين بشير الجميل وحبيب الشرتوني. بل بين ما يمثله العدوان. لبنان محكوم معظمه “برفاق” بشير، والآتي أفدح.
مَن مِن السلطة لا ينتمي إلى بشير الجميل. في “المعسكر” المسيحي، رفاق سلاح بشير، ورفاق ثقافة، ورفاق سياسة. احلافهم تفضحهم. عنصريتهم تدل عليهم. لا شفاء لهم ولا شفاء منهم. للمعسكر المسيحي الحاكم حلفاء من طوائف ارتدت إلى لبنانيتها. فوجدت في انعزاليته الطائفية مكانة تتقاسمها. معظم السّنة ما عادوا لا ناصريين ولا فتحاويين ولا قوميين. قبلتهم السعودية والسعودية تقرع ابواب “اسرائيل”.
السلطة في لبنان. هي بيد امراء الحرب وامراء الطوائف وامراء المال وامراء التفاهة. معظمهم جاء من خنادق القتل. كانوا في ما مضى قتلة. مجرد قتلة. قتلوا حتى الثمالة. لو أن الزمن استدار بطريقة مختلفة. لكانت احكام الاعدام اصابتهم.
ماذا ينتظر حبيب الشرتوني في هذا الزمن الرث؟ أعداء حقيقيون في السلطة. الذين تغربوا منه في الثمانينات أنكروه بعد الاتفاق الثلاثي وقبل الطائف. لا يريدون ابطالاً. يفضلون السلامة الوضيعة بحصة مضمونة من “عطاءات” الدولة ومشتهياتها. هذا هو لبنان اما المنطقة، “فانا اليه راجعون”.
لو. وليس في التاريخ. ومع ذلك، وللمقارنة فقط، لو أن السلطة في لبنان ليست ممسوكة من قبل امراء الحرب وامراء الطوائف وامراء المال، ولو أن فلسطين حاضرة في جلجلتها الكفاحية، ولو أن احزاباً، بما فيها حزبه، ليست ملحقة بأمراء السلطة، لكان حكم المجلس العدلي جاء مناقضاً ومشرفاً. لنال بشير الجميل عقوبته السياسية والاخلاقية، وأنصف الشرتوني ورفاقه. القضاء عندنا هو غب الطلب. المعصومون فيه قلة. وهذه مسألة متداولة يعرفها اللبنانيون بالتجربة والملاحظة و”ومن اين لك هذا”. ثم أن المسألة سياسية قبل أن تكون قانونية. من قبل، قُتل انطون سعاده بقرار من محكمة لا تحيد عن نص السلطة. الحكم نصه بشاره الخوري ورياض الصلح وتلاه القاضي.
التاريخ، لا يكتبه الابطال، بل يكتبه المنتصرون والمنتصرون في لبنان، هم من يشكو منهم معظم اللبنانيين. غير أن معظم اللبنانيين معطوب بعماه الطائفي. بالطائفية، يستبدل العدو الحقيقي، “بالعدو الوطني”. وهكذا دواليك ولا جديد في هذا الموضوع. (ألف باء) لبنان الراهن معروفة ابجديتها واساليب كتابتها ومآسي حالاتها.
لم يثر حكم الاعدام غضباً كثيراً. الاحزاب التي كانت يوما ما فلسطينية صمتت. المقاومة، نأت بنفسها. زياد الدويري اخذ ضجة أكبر بكثير. أن مقاطعة اسرائيل تخّلف. السلطة احتضنته، كما احتضنت قرار المحكمة.
أفي مثل هذا الزمن ينتظر العدل؟
تباً لزمن يُدان فيه حبيب الشرتوني وتُبَرأ فيه ساحات الذين قتلوا حتى الثمالة.
ليت زمنا آخر يأتي ويُفتح فيه ملف الحرب ويُلغى فيه العفو. عندها ستضيق السجون بأمراء الحرب والقتل والخطف والتعذيب والتهجير.
هذا الزمن مضى. ليس في التاريخ ليت.