يتواصل زحف المسؤولين العرب في اتجاه البيت الأبيض ووزارة الخارجية في واشنطن للبحث والتحري عن الخطط الأميركية الجديدة لإعادة إطلاق «المفاوضات» بين الحكومة الإسرائيلية التي تستطيع أن تجاهر برفضها لها و«السلطة الفلسطينية» في رام الله، التي لا يمكنها أن تبرر وجودها إذا ما توقفت المفاوضات تماماً وظلت معلقة في فضاء العجز العربي والتخلي الأميركي، بعد كل ما أشاعه وصول «الرئيس الأسمر» الى سدة الحكم في عاصمة الكون مسبوقاً بخطاب مختلف، نوعياً، عما ألف العالم سماعه من الرؤساء الأميركيين.
غني عن البيان أن هذا الزحف قد تخفف من «المبادرة العربية» التي كان قد أطلقها الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز في قمة بيروت، في أواخر مارس ـ آذار 2002، وكان يومها ما زال ولياً للعهد، ثم جدد التذكير بها بلهجة تتضمن شيئاً من التهديد بسحبها في قمة الكويت، في أواخر مارس 2009، مؤكداً أنها «لن تبقى على الطاولة الى الأبد».
غني عن البيان أيضا أن الأرض الفلسطينية المحتلة التي يفترض أن تكون من نصيب «السلطة» (عدا غزة المحاصرة) قد تناقصت تناقصاً حاداً، خلال الفترة بين القمتين (8 سنوات)، بعدما سلخ منها الاحتلال الإسرائيلي ما وجده ضرورياً لإقامة جدار الفصل العنصري، مما قسم الضفة الغربية بمدنها وقراها الى برازخ تفصل بين أنحائها المستوطنات التي تزايدت عدداً وتعاظمت أعداد المستوطنين فيها أضعافاً مضاعفة (زادوا عن المئتي ألف مستوطن إضافي في هذه الفترة)، من غير أن ننسى خطط العدو الإسرائيلي لاقتطاع منطقة الأغوار، على الحدود الأردنية، لزرعها بعشرات آلاف المستوطنين الجدد.
غني عن البيان أيضا أن الاحتلال الإسرائيلي ينهش على مدار الساعة لحم القدس العربية (أو الشرقية، أو ما كان مخصصاً منها، نظرياً، لعاصمة الدولة الفلسطينية العتيدة) بالمستوطنات المستحدثة، فيصادر البيوت ويطرد أهلها الذين ظلوا أهلها على امتداد مئات وربما آلاف السنين، بذرائع شتى، وينشئ في قلب الأحياء العربية مستوطنات جديدة مرشحة لان تلغي هوية الأرض وتاريخ أهلها فيها… وهو قد باشر فعلاً في إسقاط هويات مئات من أبنائها، لا سيما الأطفال والفتيان الذين اكتشف أنهم لم يتمكنوا من الحصول على هويات بأنهم «مقادسة» لأنه رفض أن «يعترف» بهم، فعاملهم وكأنهم وجدوا هناك بالصدفة وليسوا أبناء لآباء وأحفاد لأجداد هم من أعاد بناء هذه المدينة المقدسة عشرات المرات، بعد كل غارة أو غزوة صليبية أو مغولية أو مختلطة الأعراق، فضلاً عن الاحتلال البريطاني الذي ورث السلطنة العثمانية فسلم فلسطين ـ بكامل بنائها ـ للاحتلال الإسرائيلي الجديد في العام 1948.
ما يلفت في الزحف العربي الجديد في اتجاه واشنطن أنه يعني ـ في جملة دلالاته ـ أن النظام العربي قد أسقط من جدول أعماله «المبادرة العربية»، وأنه قد تجاوزها، عملياً، في اتجاه القبول المسبق بمبادرة أميركية ما، أشيع أن الإدارة الأميركية بصدد إطلاقها، ردت عليها حكومة الاحتلال الإسرائيلي بقصف مركز جعلها غير ذات موضوع، حتى من قبل أن تعلن رسمياً.
لقد رد نتنياهو على «التهديد» العربي بسحب تلك المبادرة بالاندفاع في تطرفه الى حده الأقصى، رافضاً «شريكه» ـ نظرياً ـ «السلطة الفلسطينية» ممثلة بمحمود عباس وخدينه سلام فياض… وهكذا علقت في الفضاء المفتوح تلك المبادرة التي ادعى المشاركة في صياغتها، والتحريض على إطلاقها، الصحافي الأميركي المعروف توماس فريدمان، فروي أنه ذهب آنذاك، الى الأمير عبد الله بن عبد العزيز، بصحبة السفير السعودي في واشنطن، يومها، الأمير بندر بن سلطان بن عبد العزيز… وفي الجنادرية التقى فريدمان ولي العهد السعودي في مزرعته الخاصة، فحاوره، وتحداه خلال ذلك الحوار أو أنه استفزه بقوله إن إسرائيل تنجح دائماً في إظهار رغبتها في السلام حتى وهي ذاهبة الى الحرب ضد الفلسطينيين والعرب، في حين أن العرب، ومن ضمنهم الفلسطينيون، لا يتعبون من الحديث عن الحرب وهم عاجزون عنها، ولا يملكون تصوراً واضحاً لمفهوم السلام!
هنا، بحسب رواية توماس فريدمان، انتفض ولي العهد السعودي وقال مشيراً الى بعض أدراج مكتبه: إن عندي مبادرة هنا، ولسوف أطرحها قريباً، في القمة العربية في بيروت، ولكنكم، أنتم الأميركيين، سترفضونها وستشجعون الإسرائيليين على رفضها، فأنتم تتبنون دائماً الموقف الإسرائيلي وتروجون له ولا تسمعوننا!
وكان أن أطلع الأمير عبد الله فريدمان على مبادرته التي سوف يعرضها على القمة العربية في بيروت.. وهي القمة، وقد غاب عنها الرئيس المصري حسني مبارك، وغيب عنها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، حتى بالصوت (وقد كان محاصراً في رام الله) فاتفق أن يوجه رسالة متلفزة الى القمة، لكن الشريط لم يذع (لأسباب فنية؟).
ولقد انتفض الرئيس اللبناني آنذاك، إميل لحود، واعترض على المبادرة لأنها لم تتضمن النص ـ بصراحة ووضوح ـ على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم خوفاً من شبح توطينهم في لبنان… وقد أضيفت فقرة بهذا المعنى، وانتهت القمة الى تبني هذه المبادرة التي رأى الأمير الذي صار ملكاً، أن الطرف الإسرائيلي قد أهملها وتجاهلها تماماً، في حين أن الإدارة الأميركية السابقة (جورج بوش) قد أشارت إليها بطرف خفي، ذات مرة، ثم تجاوزتها وهي تطرح صيغاً تنازلية كانت أكملها تلك التي طرحت في مؤتمر انديانا بوليس الذي دعا اليه الرئيس الأميركي السابق وتبنى فيه مبدأ «إسرائيل دولة يهود العالم» مع وعد غامض بتسوية ما مع السلطة الفلسطينية.
وانقضى عصر جورج بوش ونظريته في الحرب الصليبية التي حاول أن يبرر بها احتلال العراق وتدمير دولته وبث الفرقة بين أبناء شعبه، واستخدام العنصرية والطائفية والمذهبية لنشر أجواء الحرب الأهلية فيه، وجاءت «البشرى» بقدوم الرئيس الجديد الذي تختلط في دمائه بعض الأصول الإسلامية والأفريقية، فتوقع العرب «مواجهة أميركية ـ إسرائيلية» تنصف شعب فلسطين بعض الشيء (وتنقذ سلطته، حداً أدنى) و«تفرض» على حكومة التطرف الإسرائيلي التي ستعقبها حكومة أكثر تطرفاً قبولاً بالحد الأدنى الممكن لفتح باب التفاوض من جديد..
في القاهرة التي جاءها رئيساً واعداً بالتغيير،أطلق أوباما ما يمكن اعتباره مدخلاً أميركياً مختلفاً الى موضوع «الصراع في الشرق الأوسط». هو لم يتخل عن مبدأ بوش «إسرائيل دولة يهود العالم»، ولكنه وعد بتسوية ما قاعدتها التفاوض مجدداً لاستنقاذ ما يمكن أن يكون أرضاً لدولة فلسطينية ما… وعين مبعوثه الخاص جورج ميتشل الذي جاء في جولات عدة فطاف بدول عربية عديدة، وعقد لقاءات متعددة مع الحكومة الإسرائيلية ممثلة بزعيم التطرف نتنياهو ونجم العنصرية بحدودها القصوى وزير خارجيته أفيغدور ليبرمان، كان يخرج من كل لقاء بتنازل جديد… حتى غدت «مبادرة أوباما» غير ذات موضوع.
سنتجاوز هنا ما كانت تشهده غزة، في مثل هذه الأيام، من مذابح وقتل جماعي بالقصف الجوي والمدفعي وباقتحام بالدبابات لبعض أحياء الشقاء الإنساني في هذا القطاع الفلسطيني المحاصر…
ولكن لا بد من التذكير بالتدمير المنهجي لكل ما يشبه المؤسسات، من مدارس ومستشفيات ومساجد وبيوت ومقر الجامعة والمستوصفات ومقارّ وكالة الغوث الدولية التي ترفع علم الأمم المتحدة.
كما لا بد من التذكير بالمؤتمرات واللقاءات الدولية التي عقدت تحت عنوان تعويض غزة (مع تجاهل من المتسبب في هذا التدمير)، أشهرها قمة شرم الشيخ.
كل ذلك تم بحثه، لكن التنفيذ ظل معلقاً بألف شرط وشرط… حتى ليمكن القول إن ذلك المؤتمر قد استبدل المطلب الفلسطيني بتنفيذ الخطط والمشاريع والمقترحات التي كانت مطروحة قبل الحرب على غزة، بالتعامل مع نتائج تلك الحرب وكأنها مقطوعة عن سياق نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه في أرضه المحاصرة براً وبحراً وجواً، وفي الضفة الغربية كما في قطاع غزة.
آخر التصريحات الرسمية الأميركية كما جاءت على لسان وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون تتجاهل كل ما كان سبق إطلاقه من مبادرات ومقترحات ومشاريع مداخل الى تسوية، أميركية وأوروبية، وأممية، بما فيها خارطة الطريق، فضلاً عن المبادرة العربية التي نسيها أهلها، بدليل أن أي مسؤول عربي زار واشنطن لم يتذكرها، ولم يشر إليها بل بدأ من حيث أرادت كلينتون (ومعها نتنياهو وليبرمان) من نقطة الصفر: ماذا تحملون إلينا من جديد؟
ها هي الدائرة تكتمل مجدداً: العرب يقصدون واشنطن فتحيلهم الى إسرائيل.
أما إسرائيل فتصرفت ولا تزال تتصرف وكأنها تفاوض واشنطن، من موقع القوة، وتتجاهل العرب تماماً، وكأن لا علاقة لهم بالأمر، وتشدد حملتها على الفلسطينيين، كل الفلسطينيين، لا فرق بين «السلطة» في رام الله، و«السلطة» الأخرى في غزة..
فأما العرب فيريدون التخفف من كل ما هو فلسطيني، بإحالة الأمر على
«المرجع الشرعي» واشنطن!
وأما الإدارة الأميركية فتسعى لاسترضاء أصدقائها العرب من غير أن تحرج نفسها مع إسرائيل نتنياهو وحكومته التي عنوانها ليبرمان،
أما الشعب الفلسطيني فيدفع من قضيته الثمن للأطراف جميعاً: لإسرائيل أساساً، وللإدارة الأميركية، وللنظام العربي العاجز حتى عن سحب «مبادرته» التي لم يعد يتذكرها حتى من ادعى المشاركة في صياغتها توماس فريدمان.
وبديهي أن يتناقص موضوع التفاوض يوماً بعد يوم، بعدما صارت «القضية المقدسة» أكواماً من التفاصيل:
مساحة مشروع الدويلة الفلسطينية لا علاقة له بتمدد المستوطنات والزيادة المتعاظمة في أعداد المستقدمين الجدد من المستوطنين.
وجدار الفصل العنصري بكل ما يلتهمه من الأرض خارج البحث،
وغزة، عملياً، خارج التناول، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.
والقدس خارج البحث مطلقاً… فهي، كلها، العاصمة الأبدية لإسرائيل، ومن تبقى فيها من العرب برسم الترحيل، ومنازلهم التي فيها عبق التاريخ تحت الهدم.
والوزراء العرب يتقاطرون الى واشنطن زرافات ووحداناً يمتنعون عن التذكير بالمبادرة العربية، ويتحدثون عن «أفكار» أو يطلبون بل يطالبون بمقترحات جديدة.
أما السلطة في رام الله فموضوع حملة عنيفة جديدة من نتنياهو وحكومته بذريعة أنها أطلقت اسم شهيدة فلسطينية على ساحة في رام الله..
المبادرة العربية لن تبقى على الطاولة الى الأبد..
لن نسأل: ما هو الموعد الفعلي لرفعها عن الطاولة، وهل من بديل منها، أي بديل؟!
فضلاً عن التساؤل المر: وهل كانت هي بالفعل بديلاً صالحاً كمدخل للحل؟
ثم ، كيف يكون الرد العربي، ملكياً ورئاسياً وسلطانياً وأميرياً، على إهمالها؟
والقمة العربية الجديدة بعد شهرين، إلا إذا حدث ما يرجئها أو يلغيها أو ينسفها… فهل تراها مؤهلة بعد، وقادرة على اتخاذ خطوة حول ما بعد المبادرة التي تعتقت بما يكفي خلال السنوات الثماني الأخيرة.
([) تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية