تتعذر قراءة المستقبل العربي، مع إطلالة السنة الجديدة، سواء في مداه القريب فضلاً عن أن مداه الأبعد غامض الملامح مع كثير من القسوة فيها.
لكأن العرب «أمة» تاهت عن حقيقة ذاتها وعن طريقها الى غدها، وعن موقعها في هذا العالم ، وتشرذمت على مدى أرضها الواسعة تفصل بين أشتات قبائلها وعشائرها والبطون والأفخاذ التي تتخذ صورة «الدول» أنفاق من الخصومات والعداوات والضياع في بحور من دمها الذي يهدر في حروب عبثية ومعارك وهمية ضد الذات أولاً وأساسا.
لقد أجبر النظام العربي رعاياه على العيش في «معازل» تفصل بين «دولهم» حتى باتوا لا يستطيعون التواصل إلا عبر «أنفاق» حفروها ـ خفية وبشق الأنفس ـ لكي يحافظوا على الحد الأدنى من الروابط بين من هم، بحكم التاريخ والجغرافيا والأنساب، وكذلك المصالح، إخوة وأشقاء..
لقد تقطعت الأواصر، أو تكاد، بين «الدول» العربية، وذهب كل من أهل النظام العربي الى من يوفر له الحماية والاستقرار ودوام الحال على ما هو عليه… ومع أنهم تلاقوا عند الصديق الأميركي الكبير جميعاً، إلا أن كلاً منهم أصر على أن له «قضيته» الخاصة المنفصلة عن قضايا «الأشقاء الآخرين»، وان كان مرجعهم جميعاً البيت الأبيض أو من يمثله… فلكل «معزل» سيادته واستقلاله وحرية قراره في شأن «الأنفاق» ما ظهر منها وما خفي.
إن أهل النظام العربي قد تفرقوا أيدي سبأ، لا يربط بينهم إلا ما يؤكد انفصال بعضهم عن البعض الآخر، أي الأنفاق.
إن العلاقات المصرية ـ السورية (على سبيل المثال) قد دخلت منذ بعض الوقت نفقاً لا تعرف له نهاية محددة، فضلاً عن أن تعرف الأسباب الفعلية لنشوء هذا النفق وكيفية الخروج منه، الى ما كان قبله من علاقات تحالف (حتى لا نقول أخوة) هي في مصلحة الطرفين وسائر العرب (ونحن شهود عدل في لبنان على خطورة القطيعة أو حتى البرودة في العلاقة بين هاتين الدولتين خصوصاً).
أما العلاقات المصرية ـ الجزائرية فقد أدخلت في نفق معتم استحدث مؤخراً ولأسباب لا تقنع أي عاقل، مما تسبب في تمزيق واحدة من أزهى صفحات التعاون الأخوي بين شعبين شقيقين في دولتين سيدتين.
العراق كله داخل نفق بل مجموعة أنفاق، لا تعرف لها بداية ولا يعرف المخرج منها، والكل يعارك الكل في الأنفاق، بينما الاحتلال الأميركي جاثم فوق صدر الوطن ـ الدولة، فالشعب يمزق ذاته، بتحريض متعدد المصادر، يقتتل الإخوة والاحتلال الأميركي أمامهم وخلفهم ومن حولهم، وهو غير معني، والأخطر أنه غير مسؤول عن الأمن في الدولة الكبيرة التي كانت غنية وقوية، وهاجمها فدمرها بذريعة أنها تملك أسلحة دمار شامل تهدد سلامة العالم جميعاً.
والعلاقات بين لبنان وسوريا تحاول تخطي النفق الذي حفرته الأخطاء وسوء الإدارة فمهدت لتدخل الدول، بعيدها الأجنبي وقريبها العربي، وهي تحتاج الى كثير من الضوء والهواء والحوار الصريح قبل أن تستعيد صورتها الأصلية أو ما يفترض أن تكون عليه بين دولتين، كل ما بينهما من روابط الجوار والنسب والمصالح يفرض التكامل، ولا يفسح بأي حال للقطيعة!
أما العلاقات بين سوريا والعراق فقد أدخلت من جديد الى نفق العداوة والقطيعة.. فالقطيعة استثمار سياسي مجزٍ للاحتلال الأميركي بداية، وللجوار العربي الملكي الآخر، ثانياً، وللجوار الإيراني القادر على التمدد إن بوهج الشعار الإسلامي وإن بالقدرة المادية، أو كاستجابة لنداء الفراغ الموجود الذي تحتشد فيه أسباب الفتنة التي يساهم في اصطناعها الجميع بوصفها الاستثمار المجزي… وليس مهماً ان تندثر دولة عربية كبرى كان اسمها العراق.
العلاقات بين السعودية وسائر البلاد العربية مجموعة متقاطعة مع الأنفاق:
مع دول الخليج «عادية» يسودها تهيب الصغير للكبير، ولكن دون أن يسلمه قراره، خصوصاً أن هذه الدول الخليجية الصغيرة أغنى من أن تحتاج المملكة المذهبة، ثم ان غناها يجعلها مصالح عظمى للأجنبي فيحمي «ابتعادها» عن «الأخ الأكبر» حتى ليستحيل توحيد العملة والاتفاق على قمة مؤسسة إصدار النقد الموحد.
لقد حفرت كل دولة من دول الخليج أنفاقا لسياساتها المستقلة: الكل مع الولايات المتحدة الأميركية، لكن من دون أن تغلق الأنفاق مع الجارة الكبرى إيران، ثم انها تدعم حفر أنفاق لعلاقات إضافية مع فرنسا ومع روسيا ومع الصين أساسا، بقصد التوازن وحماية «الاستقلال».
وكل ذلك على حساب علاقات هذه الأقطار مع سائر الشقيقات العربية التي يبعدها عنها الفقر… فهي ليست جمعيات خيرية، وقد تقلص الواجب القومي فغدا أقرب الى الصدقة.
أما العلاقات بين الدول العربية في شمالي أفريقيا فتحكمها أنفاق من العداوة (الى حد الحرب، ولو صامتة، بين الجزائر والمغرب) أو البرودة (كما بين موريتانيا والمغرب، أو كما بين تونس وليبيا) الخ..
أما السودان فإن الأنفاق بين أبناء شعبه ثم بين جهاته تكاد تجعله دولاً عدة. والاشتباكات بين أطرافه، سياسية أو حربية، أوضح من أن تحتاج الى شرح، لكن المؤكد أن مستقبله كدولة يغوص عميقاً في نفق لا مخرج واضحاً منه، وربما كان من الحكمة توقع مخارج عدة بينها الانفصال أو تقطيع هذه الدولة العربية الغنية بمواردها وبطيبة شعبها الى دول عديدة قد تفصل بين الواحدة والأخرى خنادق من العداوة المفتوحة.
ونصل الى مصر، وأهلها أدرى منا بأحوالها، ولكن مشهدها من الخارج لا يفرح الأخ الشقيق ولا يريح الصديق المحب.
إنها في أزمة مع دورها الذي يناديها فتعجز عن تلبيته، ثم يستفزها أن تجد غيرها يتقدم بزعم أنه البديل منها، فتشتبك مع «البديل» المفترض إلى حد التشهير به ثم القطيعة… متجاهلة أنها أكبر من أن تقاطع، وأقوى من أن يكون لها بديل اذا هي مارست مسؤولياتها.
وتتبدى مصر أحيانا وكأنها محاصرة في نفق من همومها الداخلية، وهي اقتصادية ـ اجتماعية أساسا، ولكن لها تأثيرها الحاسم على دورها السياسي العربي والإقليمي والدولي… فإذا ما غيبها عجزها عنه تقدم غيرها للعبه، أو ظل الدور معلقاً في سقف النفق لا يجد من يقوم به، فيزداد غيظها من عجزها فتبادر الى نسبته الى التآمر عليها.
أما أحوال اليمن فمجموعة من الأنفاق تتقاطع فيها دول عديدة في سياسة الحرب كما في حروب السياسة: فحرب الشمال عادت قبائلية تستدرج مجدداً صراع النفوذ بين حاشد ومن معها والحوثيين (ومكبل بحكم الموقع الجغرافي للجبهة) ومن معهم، ثم ان هذه الحرب قد استعادت فأعادت صراعاً تاريخياً على النفوذ والحدود بين دولتين: إحداهما ترى نفسها صاحبة تاريخ ومجد سالف لا يعيبها فقر شعبها الذي احترف القتال، والثانية تصطنع بذهبها تاريخاً غير الذي كان لأرضها… والذهب يغري أصحابه بجيرانهم كما يغري بهم جيرانهم، وهو قد يفصل ويرسم الحدود بأكثر مما يفعل السيف.
وهكذا فإن صراعاً في أنفاق العلاقات الملتبسة دائماً والمثقلة بذكريات التوتر والريبة وتجبر حديث النعمة وكبرياء الفقير الغني بتاريخه، قد فجرت حرباً على الحدود التي لم يقبلها أي من الطرفين إلا على مضض. فالفقير يرى أن أرضه اغتصبت بتواطؤ الحكم الضعيف مع الجار الغني، والجار المصفح بالذهب يرى في ضعف دولة جاره الفقير فرصة للتمدد.
هو وضع مثالي بالنسبة للقاعدة لكي تحفر أنفاقها في كل مكان: حكم الشمال مشغول بحروبه في الداخل، غرباً مع الحوثيين، وجنوباً مع التململ السياسي الذي لم تنفع في علاجه الوحدة بالحرب والذي له من يغذيه في الخارج لإضعاف الدولة المركزية، ثم ان التورط السعودي في حرب الشمال على الحوثيين يمنح فرصة ممتازة للقاعدة التي يرى مقاتلوها في الأطراف جميعاً «أهدافاً»… ثم ان هذه الفوضى المسلحة والحروب العبثية المفتوحة التي يستحيل فيها النصر على أي طرف توفر المسرح المثالي للذين يقاتلون الكفار وأعداء الدين من أهل الداخل والخارج.
وبديهي أن يضيف التدخل العسكري الأميركي بالغارات الجوية والعمليات الخاصة التي نفذها وينفذها رجال المخابرات المركزية الأميركية، بعداً جديداً تفيد منه القاعدة، إذ يعطيها مبرراً إضافيا للجهاد.
في أنفاق الاضطراب في اليمن مساحات لدول كثيرة، وبديهي أن تستفيد من هذا الاشتباك المفتوح في مكان قصي ومعتم أية قوة تبحث عن موطئ قدم لنفوذها، تتدخل السعودية ومن معها، فتتحرك إيران إن لم يكن كدولة فعبر بعض التنظيمات الحاملة شعار الثورة، أو بعض المراجع الدينية التي لا صفة رسمية لها، خصوصاً أن التدخل الأميركي الذي بات الآن مكشوفاً ومعلناً يعطيها المبرر.
ولأننا في بداية عام، فلا بد من أن نستذكر ما كنا فيه في مثل هذه الأيام من السنة الفائتة: لقد كنا نعيش مأساة عربية جديدة عبر الحرب الإسرائيلية على غزة.
وها هي الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في غزة تكمل سنتها الأولى، وهي مجرد محطة إضافية في سياق الحرب الإسرائيلية المفتوحة على هذا الشعب منذ ستين سنة أو يزيد قليلاً، فينسى النظام العربي وقائعها ويقفز من فوق ـ محاولة ـ مجرد محاولة ـ محاسبة إسرائيل عليها، ليتذكر فقط «الأنفاق» التي حفرها الفلسطينيون عند أطراف صحراء سيناء ليؤمنوا الطريق في الصعب لوصول المؤن والأدوية ولوازم المدارس (وربما بعض الأسلحة) إليهم، في محاولة لمقاومة الحصار الإسرائيلي المفروض عليهم، بالنار، برأ وبحراً وجواً.
ومن أسف فإن هذه «الأنفاق» كادت تتحول، بفعل فاعل، الى مقبرة للعلاقات الأخوية بين الشعبين المصري والفلسطيني، خصوصاً وقد بدلتها السياسة المرتجلة في قلب العصبيات الشوفينية من «إشكال أمني» الى «قضية قومية»، بل الى مسألة دولية للإدارة الأميركية فيها الدور الحاسم قبل إسرائيل ومعها وبعدها.
لقد صورت «الأنفاق» ـ وهي شريان حياة للمليون ونصف المليون من أهل غزة واللاجئين اليها عبر الحروب الاسرائيلية على العرب عموماً وشعب فلسطين خصوصاً ـ وكأنها محاولة فلسطينية لاجتياح السيادة المصرية. وصوّر أي متعاطف وكل متعاطف مع هذا الشعب المحاصر في «القطاع» الذي يكاد يكون مصرياً بمشاعر أهله الذين لم يعرفوا غير مصر شقيقاً جاراً ونصيراً (وحاكماً على امتداد عشرين سنة تقريباً).. وكأنه عدو لمصر، وما هو بعدو…
تم التجاهل بشكل مطلق لحقيقة أن هذه «الأنفاق» تؤكد حقيقة الارتباط الوطني والقومي لأهالي غزة بمصر، وتطلعهم إليها، إن لم يكن لنجدتهم والمساعدة على تحررهم فأقله من أجل ضمان استمرارهم على قيد الحياة، بنسائهم وأطفالهم والشيوخ، قبل الرجال والتنظيمات السياسية والحكومة المقالة… ومن أجل حماية منشآتهم الفقيرة وتأمين الخدمات الطبية والتعليمية للمستشفيات والمدارس والجامعة شبه المهدمة، في انتظار «حل ما» يحفظ ـ مع حياتهم ـ الحد الأدنى من كرامتهم الإنسانية… (مع التذكير بأن المقررات المهمة للمؤتمر الخطير الذي جاءته الدول على عجل في شرم الشيخ بدعوة من القيادة المصرية، لم تر النور مطلقاً، ولا تزال المساعدات التي اتخذت القرارات الفخمة بشأنها حبراً على ورق، في انتظار المصالحة بين الماء والنار..).
كذلك تم التجاهل المقصود لخطورة أن يتحول «المؤقت» الى «دائم»، وان استمرار الحال على ما هي عليه لفترة أطول يخلق «أمراً واقعاً» يصعب تغييره في مستقبل قريب. وهذا يمهد لان تصير غزة «كياناً سياسياً»، لا هو بالدولة، ولا هو بالقطاع، ولا هو جزء من مشروع «دولة» فلسطينية عتيدة، ليس في الأفق الدولي ـ ولا العربي ـ ما يؤكد احتمال قيامها، ولو بعد دهر… بل ان الوقائع تثبت أن ما كان قد «منح» من أرض فلسطين لشعبها (بموجب اتفاقات وقرارات قمم عديدة) قد ضاع تماماً، وقامت فوقه مستوطنات إسرائيلية جديدة يتزايد عدد المستوطنين فيها يومياً، فضلاً عن جدار الفصل العنصري الذي قسم الضفة الغربية الى منطقتين متقابلتين يكاد ينعدم الرابط بينهما إلا عبر إسرائيل وبإذن منها.
[[[[[
لا تعيش الدول في الأنفاق،
ولا بد من ابتداع مخارج للعودة الى النور، الى الحياة… فطول الانتظار في الأنفاق لن يؤدي إلا الى الاختناق،
وهذه إسرائيل: هي وحدها تتصرف وكأن الدنيا جميعاً مسرحها، وهي الأعظم سعادة بهذه الأنفاق التي تيسر لها أن تصطاد أهل النظام العربي، دولة اثر دولة، فتزيد «المعازل» من القطيعة في ما بينهم حتى يتطوع البعض لتعميق الأنفاق القائمة مع إخوته، بوهم أن إسرائيل تغنيه عن جميعهم.
والسؤال: من يهدم النفق الأول؟ من يخرج أولاً الى النور ويخرج النظام العربي من قصوره وتقصيره ويعيده الى الحياة؟
أما الأمة فطريقها مختلف.
[ تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية