تم وضع الوطن العربي بأقطاره جميعاً تحت الوصاية الدولية، حتى ليمكن القول إن مجموع أقطاره تخضع ـ بالرغبة أو بالقسر ـ لقرارات دولية أو مدولة استصدرت في مجلس الأمن الدولي أو «فرضت» عليه، كما في حالة «تشريع» الاحتلال الأميركي للعراق.
والوصاية الدولية سرعان ما تتبدى أميركية خالصة، وأميركية ـ إسرائيلية في ما خص الدول العربية المحيطة بالكيان الإسرائيلي… فكل حرب إسرائيلية على هذا البلد العربي أو ذاك انتهت بقرار يغطي نتائج تلك الحرب، ويفرض التعاطي مع المستقبل العربي انطلاقاً منها.
أما فلسطين فلم تعد موجودة كقضية قائمة بذاتها في مجلس الأمن الدولي بل هي باتت من اختصاص إسرائيل أساسا معززة بالتأييد الأميركي المطلق.. وكثيراً ما تدخلت الإدارة الأميركية، لتولي معالجة «التفاصيل الفلسطينية» بالنيابة عن حكومة العدو الإسرائيلي ولحسابه، كما يحدث هذه الأيام، عبر إعادة إحياء «التفاوض غير المباشر» بالرعاية الأميركية بين «السلطة» وإسرائيل.
والواقع أن قضية فلسطين قد تم تفتيتها الى مجموعة من «التفاصيل الإسرائيلية» بعد اتفاق أوسلو وإقامة «السلطة»، فأخرجت من جلدها العربي تماماً، إلا في ما يتصل بما يسمى «الحل النهائي» الذي يحتاج موافقات دول عربية عدة لاتصالها بأمنها القومي… ومن هنا تكتسب المبادرة العربية بعضاً من أهميتها كونها تحدد، ولو بصيغة عامة، موقع «إسرائيل» في المحيط العربي وطبيعة علاقاتها المستقبلية مع أقطاره في ضوء الصيغة التي سينتهي إليها مشروع «الدولة الفلسطينية»، وهل تكون مجرد جيب داخل السيادة الإسرائيلية كطفل الكنغارو، أو يكون لها كيانها المستقل المفتوح على «الجيران العرب»، وعلى الأردن تحديداً… وهذا ما يثير المخاوف الملكية، فيتم اللجوء مجدداً الى العصبية البدوية شرق الأردنية في مواجهة «الوافدين» الفلسطينيين.
[[[[[[
وما بين 3 آذار ـ مارس الماضي، واللقاء الذي تم بين الرئيس المصري حسني مبارك ورئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو يوم أمس الأول في شرم الشيخ، جرت مياه كثيرة في قناة مشروع الحل الأميركي المطروح لإعادة وفد السلطة الفلسطينية الى مائدة التفاوض غير المباشر، على التفاوض تحت رعاية الموفد الأميركي ذي الابتسامة البلاستيكية جورج ميتشل، ومع دعم عربي مجدد كررته لجنة المبادرة العربية في اجتماعها الأخير في القاهرة الأسبوع الماضي، وهي كانت قد هللت للتفاوض، بكل أشكاله، في اجتماع سابق (في 3 آذار، مارس الماضي)…
ولقد أمكن تحقيق هذا «الإنجاز» بعد تهديدات أميركية صريحة وجهتها وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون للعرب عموما، باعتبارهم الطرف الأضعف، مستندة الى أن الرئيس أوباما قد تعهد بوقف الاستيطان بشكل غير رسمي تفادياً لإغضاب «المتطرفين الإسرائيليين»..
يمكن القول والحال هذه إن الاضطراب الذي شهدته العلاقات بين إدارة أوباما والحكومة الإسرائيلية برئاسة نتنياهو، قد انتهى بوعد إسرائيلي غامض بوقف الاستيطان لمدة أربعة شهور، يجري خلالها التفاوض على التفاوض، ثم يكون بعد ذلك ما يكون، بغير ضمانات للطرف الفلسطيني، إلا إذا افترضنا أن الموعد الذي أعطي لمحمود عباس للقاء الرئيس الأميركي خلال الأسبوع المقبل، يعني الولوج في حلّ مشروع تصور غير محدد لحل افتراضي غير محدد، وغير مؤكد، ولكنه عرض لا يمكن رفضه، لا على مستوى «السلطة» ولا حتى على مستوى لجنة المبادرة العربية التي غالباً ما تضع الكلام على لسان رئيس السلطة، باعتباره العرض الوحيد المتاح، ثم لا تجد بداً من الموافقة عليه، قبل أن تنصرف الى معالجة الاحتلال الإيراني للجزر الثلاث في الخليج العربي، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، وهي التي وجدها وزير الخارجية الإماراتي مماثلة في قداستها للأرض المباركة فلسطين وربما أهم.
÷ بالمقابل ترتفع الأصوات في لبنان مطالبة «بتحريره» من مندرجات القرار 1559الصادر في مطلع أيلول (سبتمبر) 2004 والذي رأى فيه كثير من قواه السياسية نوعاً من فرض الوصاية قطعاً بالأمر لصلته بفلسطين قضية ومصير شعب، وكذلك فرضا للوصاية الدولية على علاقاته مع سوريا… وهذه العلاقات متشابكة ومعقدة جداً تتجاوز العسكر الى الاقتصاد والاجتماع (صلات قربى ورحم) والمصالح المشتركة (وقد كانت موحدة أيام الانتداب الفرنسي..) بل هي تطاول أساساً الجهد الوطني لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي قبل إجلائه في الخامس والعشرين من شهر أيار (مايو) 2005. وعلى هذا فإن تيري رود لارسن الذي يصفه معظم اللبنانيين بأنه «عميل لإسرائيل» يتولى رصد الأوضاع الداخلية، ويقدم التقارير الدورية عن سلاح المقاومة وما يفترضه تحركاتها في الجنوب اللبناني، مع علمه بالتزامها التام بمنطوق القرار 1701، الذي استصدر ـ ناقصاً ـ في أعقاب الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز ـ يوليو ـ 2006 بدليل انه أخذ علماً بوقفها إطلاق النار ولم ينص صراحة على وقفها العمليات الحربية.
وفي تقدير اللبنانيين أن القرار 1701، الذي اضطروا لقبوله باعتباره كان العرض الوحيد لوقف الحرب الإسرائيلية، إنما يعطي إسرائيل، مباشرة أو عبر لجان مراقبة الحدود وتفتيشها التي أثارت حركتها استنكاراً واسعاً، ورأوا فيه تجاوزاً على السيادة والاستقلال، «حرية التدخل» في شؤون هذا الوطن الصغير الذي يتعرض لضرباتها الجوية منذ آخر العام 1968، والذي احتلت قواتها ذات يوم كل جنوبه وبعض الجبل وصولاً الى العاصمة بيروت في 1982.
وكان «بعض» الإدارة الأميركية قد أثار ضجة عظيمة، لم تهدأ بعد، حول «تهريب» صواريخ سكود الروسية من سوريا الى المقاومة في لبنان، ثم اندفع الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز الى التأكيد القاطع لدخولها، حتى كاد يقول إنه رآها تعبر الحدود بأم عينيه..
وبرغم النفي السوري المتكرر، والرفض اللبناني لهذه الادعاءات، مع الإشارة الى أن طول الصاروخ الواحد يتجاوز 12 متراً، فإن الإدارة الأميركية استمرت تضغط بهذا الادعاء لأسباب سياسية تستهدف الضغط (علناً) على دمشق، والأرجح لأسباب تتصل بإضعاف اعتراضها على مشروع تجديد المفاوضات غير المباشرة بين سلطة محمود عباس وإسرائيل تحت الرعاية الأميركية.
وفيما لا تتعب واشنطن من الادعاء أنها وفرت كل ما هو مطلوب للسلام، وان أوباما قدم ضمانات لمحمود عباس، فإن الواضح أن الإدارة الأميركية تريد تأمين هدوء لمباشرة الانسحاب من العراق (ربما لتعزيز وضع قواتها في أفغانستان، وربما لإعداد العدة للهجوم على إيران كما تشير بعض التقديرات..)، وعلى هذا صدر أمر اليوم الأميركي، انتهوا قبل تشرين الأول ـ أكتوبر!
وواضحة هي دلالات كلمات الجنرال باتريوس، قائد المنطقة الوسطى في قيادة القوات الأميركية المركزية، والتي أكد فيها أن «علينا عزل إيران من خلال الأمم المتحدة بواسطة حلفائنا في الخليج، مستخدمين الدرس الذي تعلمناه في العراق».
[[[[[[
÷ ويبدو أن العراق تحت الاحتلال الأميركي مرشح الآن للإخضاع لنوع «مبتكر»… من الوصاية الدولية بالطلب! أو هذا ما يسعى اليه بعض سياسييه وفي طليعتهم رئيس حكومة ما قبل الانتخابات نوري المالكي، كرد على تعذر إحرازه الأكثرية المطلوبة للبقاء في منصبه، فيما يعارض خصومه الكثر مثل هذا التوجه، الذي يحمل في طياته نذر الحرب الأهلية، لأن إلغاء نتائج الانتخابات بهذه النسبة أو تلك ستكون له ارتدادات مذهبية، لان القائمة المنافسة التي كان يرأسها إياد علاوي ترى أنها قد فازت بالمرتبة الأولى نتيجة تصويت السنة بكثافة لها، كونها ضمت العديد من القيادات المعروفة التي حاول المالكي الطعن بفوزهم عن طريق اتهامهم بالانتماءـ ذات يوم ـ الى حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي بات يصور وكأنه الشيطان الرجيم، علماً بأنه كان يضم في عضويته، في عهد صدام حسين، أكثر من مليون عضو، من بينهم معظم قيادات الجيش وأركان الدولة بمؤسساتها المدنية والأمنية والدبلوماسية والمبعوثين للدراسة في الخارج، والأزواج والزوجات والأبناء البالغين منهم والذين يقتربون من سن البلوغ.
ومعروف أن العملية الانتخابية قد جرت بتوقيتها، الذي اختير بعد طول تردد، نتيجة إلحاح الاحتلال الأميركي بعدما قررت إدارة أوباما مباشرة الانسحاب في صيف هذا العام، بعد تجميع القوات، وبأمل أن ينتهي الأمر في العام المقبل.
[[[[[[
÷ أما السودان المخضع في بعض أنحائه لنوع من التدويل فلسوف يتكامل هذا التدويل على الأرجح بفصل الجنوب عن الشمال، مع بداية العام المقبل، بكل ما تحمله عملية الفصل من مخاطر الحرب الأهلية التي قد تمتد نيرانها الى أنحاء أخرى (دارفور في الغرب؟!). لتمزق هذا البلد العربي الكبير نتفاً مقتتلة.
ولا يمكن تناسي التزامن في طرح إعادة النظر في توزيع مياه النيل، في هذه اللحظة السياسية تحديداً، بكل ما تفتحه من أبواب لمخاطر مصيرية جدية، تتجاوز السودان لتصيب مصر في شريان حياتها الأول.
وبديهي أن مصر التي تأخرت كثيراً في قراءة التحولات السياسية التي شهدها العديد من الأقطار الأفريقية حيث منابع النيل، وأبرزها ما سعت اليه إسرائيل جاهدة في السنوات القليلة الماضية، والتي بلغت ذروتها مع الادعاء أن لها الحق بالحصول على نسبة من حصة مصر، ما دامت الدول المعنية (أثيوبيا، مثلاً، أو كينيا أو أوغندا الخ) مستعدة لأن تبيعها ما يفيض عن حاجتها، ولو كان ذلك تفريطاً بحقوق مصرية كفلتها معاهدات دولية… فتلك الدول فقيرة وإسرائيل مستعدة لان تدفع ثمن المياه مفترضة أنها باتت أقوى تأثيراً على معظم الدول الأفريقية المعنية بالاستناد الى الدعم الأميركي، وتناقص الاهتمام المصري الجدي بهذه القضية الحيوية، خاصة، وبعلاقاتها الأفريقية عامة، منذ سنوات طويلة، مما باعد بينها وبين أشقائها الأفارقة ومكن للنفوذ الإسرائيلي… المذهب!
ولقد دفعت فلسطين، القضية المقدسة، كلفة باهظة لخسارة أفريقيا التي أهملها العرب، إلا كمستثمرين آتين من الخليج الآن، وربحتها إسرائيل.
[[[[[[
÷ بالمقابل فإن اليمن مهددة بأن تطرح مسألتها في سوق التدويل، إذا ما تعذر على نظامها أن يحسم الصراعات الداخلية، التي يتخذ بعضها شكل «الانتفاضة المسلحة» كما في منطقة صعدة، وبعضها الآخر يقترب من العصيان المدني كما في أنحاء الجنوب الذي كان «دولة» ذات يوم، والذي أنهت حرب الانفصال وجوده المستقل وأعادته الى أحضان دولته المركزية الطبيعية اليمن، ولكنها قصرت في معالجة جراحه فإذا «بالحراك الجنوبي» يبدأ خطوات معارضة سرعان ما طورها غياب المعالجة السياسية الحاسمة وتحقيق العدالة في توزيع الثروة الوطنية الى مشروع حركة انفصالية.
وسط هذه المناخات أمكن لتنظيم «القاعدة» أو ما يشابهه أن ينمو ويتزايد قوة، خصوصاً أن السلطة حاولت ـ بداية ـ أن تستثمر خطره لاستدراج الاهتمام الأميركي، ومعه السعودي، وبالتالي المساعدات العسكرية والاقتصادية، والمالية أساساً، لحل المسألة على الطريقة التقليدية: ادفع نرجع المعارضة الى بيت الطاعة.
وهنا أيضا خسرت فلسطين سنداً مهماً، وربحت إسرائيل «المعابر» مجاناً، من مضيق تيران وحتى باب المندب، وبامتداد البحر الأحمر وحتى المحيط.
ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية