طلال سلمان

مع الشروق قمتان في غياب مصر … والضحية قضية فلسطين ([)

لم تعد القمة العربية «حدثاً» ينتظره الناس متوقعين أن يكون موعدها فاصلاً بين تاريخين، أو نقطة تحول ما بعدها مختلف عما قبلها.
صارت «القمة» محطة لتجمع الأزمات في العلاقات العربية ـ العربية، وكلها ملتهب ويهدد بنسف القمة قبل أن تعقد، أو بإفراغها من مضمونها اذا ما عقدت، حتى لا تتفاقم الخلافات المعلقة أو تنفجر فتفجر ما بقي من روابط أو علائق أو مصالح متبادلة في ما بين أقطار القادة الذين قد يأخذهم تمسكهم بالشخصي الى ما يهدد العام المتصل بشؤون دولهم ومواطنيها.
ولقد تسنى لي أن أشهد، الأسبوع الماضي، قمتين دفعة واحدة خلال أقل من ثمان وأربعين ساعة في الصالة نفسها من الفندق ذاته في العاصمة ذاتها للدولة الصغيرة التي منحها غناها بالموارد الطبيعية ودهاء حاكمها وقدرته على الحركة المتحررة من أية ضوابط مألوفة أو معتمدة في السياسات العربية، هامش مناورة فسيحاً يتسع لانقلابات متوالية في التحالفات والمخاصمات من غير خشية من أية مساءلة فكيف بالمحاسبة؟
فأما القمة الأولى في الدوحة فكانت القمة العربية الواحدة والعشرون التي خسرت الكثير من قيمتها نتيجة غياب مصر عنها، خصوصاً أن هذا الغياب قد عطل البحث الجدي في شأن القضية الفلسطينية التي أعطت المبرر الفعلي لانعقاد القمة العربية دورياً … بل ان هذه القضية كانت الأساس في اعتماد القمة الدورية مرجعية للقرار العربي المشترك (اذا ما تعذر الموحد) في الشأن الفلسطيني منذ أن دعا الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لأول قمة عربية في القاهرة في العام 1964، وهي القمة التي شهدت استيلاد منظمة التحرير الفلسطينية وما انبثق عنها من مؤسسات، والتي اعتمدت في جامعة الدول العربية ـ ثم في العالم ـ كالممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
وأما القمة الثانية، والمتصلة بالأولى اتصالاً وثيقاً، فهي القمة الثانية للدول العربية مع دول أميركا الجنوبية والتي وان غلب عليها الطابع الاقتصادي، فلقد كان مقدراً لها أن تكون مناسبة مهمة لتلاق تاريخي بين شعوب تحاول استعادة مقدراتها وقرارها في ما يتصل بمكانتها وبدورها في هذا العالم المخضع لمصدر أوحد للقرار (أميركي).
وكانت أولى المفارقات الساطعة أن قادة أميركا الجنوبية (أو اللاتينية) يأتون الى لقاء مع العرب في محاولة للتخفيف من الضغوط الأميركية التي تسعى لتأبيد الهيمنة الأميركية على تلك الدول بمقدراتها وطموحات شعبها الى التحرر واستعادة القرار الوطني المستقل، في حين ان الدول العربية بمجموعها مندفعة ـ بضعفها وعجزها عن القرار ـ الى حيث يمكن ان تشملها الهيمنة الأميركية بنعمها، متنازلة عن قرارها، مسلمة بأن الادارة الأميركية في واشنطن أدرى منها وأعرف بمصالح شعوبها وأقدر على تحقيقها.
وفي حين جاء الأصدقاء من القارة الأميركية الجنوبية على جناح حماستهم لنصرة العرب، في فلسطين خاصة، وللتضامن معهم وتعزيز النضال المشترك من أجل التحرر واستعادة القرار الوطني، فإن معظم القادة العرب الذين استقبلوهم كانوا في شغل شاغل بيأسهم من ذواتهم عن شعارات الزمن الجميل الذي مضى وانقضى ولن يعود … وربما لهذا تطلع البعض الى هؤلاء الضيوف الممتلئين حماسة بكثير من الدهشة وقليل من التعاطف، وان ظل الإشفاق ـ منهم وعليهم ـ هو الغالب.
بلغت الدهشة حدها الأقصى حين رفع الرئيس الفنزويلّي تشافيز كتاباً عن الثورة العربية يحمل غلافه صورة جمال عبد الناصر، قائلاً ان هذا القائد العربي هو النموذج الذي يقتدي به ثوار أميركا اللاتينية في سعيهم الى التحرر والى بناء أوطانهم بقدراتها المستعادة من أيدي مستعبديهم «اليانكي»…
تحولت الدهشة الى مفارقة محزنة، فمعظم القادة العرب المتلاقين في الدوحة كان يفترض أن هذا النموذج ينتسب الى الماضي، وان لا مكان له في الحاضر فكيف بأن يكون في المستقبل … خصوصاً انه يعني المواجهة الى حد القتال مع قوى الهيمنة الخارجية، والأميركية تحديداً، التي باتت مصدر الحماية والأمان في مواجهة
«التطرف» و«الأصوليات» وأحلام المراهقين القائلين بالمواجهة طريقاً الى الحرية ..
فأما القمة الأولى، العربية، فقد انتهت مع إعلان افتتاحها، وان هي حفلت بمجموعة من الطرائف واللطائف التي كان بطلها العقيد الليبي معمر القذافي.
ذلك ان غياب مصر، بشخص رئيسها، أفقد القمة «نصابها»، ثم ان هذا الغياب قد شمل ـ بالضرورة ـ تغييب الموضوع الفلسطيني الذي بات، منذ ما قبل الحرب الاسرائيلية على أهل فلسطين في غزة، من اختصاص المخابرات المصرية … وطالما أن اللواء عمر سليمان ما زال يعالج شؤون المصالحات وشروط التسويات واتفاقات أنصاف الحلول بين الفصائل الفلسطينية، ومستقبل «السلطة» التي لا تملك من أمرها شيئاً، ونصيب كل من «فتح» و «حماس» فيها، فإن أي حديث في الموضوع الفلسطيني في ظل هذه الغياب المفجع سيكون نكأً للجراح، بالمزايدة والمناقصة … بل ان مصر قد ترى فيه تجاوزاً لدورها وتخريباً لجهودها. وبالتالي فإن أفضل ما يفعله المؤتمرون ان يعلقوا البحث في الأمر، مكتفين بتعابير عامة وجمل مبهمة .
بالمقابل فان إسرائيل قد شهدت اكتمالاً للانقلاب نحو يمين اليمين، أو بتعبير أدق نحو العنصرية المطلقة التي جاءت انتخابات الكنيست لتسبغ عليها «الشرعية» مع كل ما ارتكبته عصابات المستعمرين المستقدمين من أربع رياح الأرض «ليرثوا» أرض فلسطين بطرد شعبها من مدنه وقراه التي بناها أجداد الأجداد بعرق الجباه والزنود، وبمواجهات مفتوحة عبر التاريخ مع غزوات الفرنجة والصليبيين ثم مع الإسرائيليين الذين جاؤوا لينتزعوها منهم بقوة الغرب (والشرق) وبالمجازر وحملات الإبادة والهدم والطرد والتشريد بقوة السلاح.
لم تجد القمة من أسباب القوة ما يمكنها من اتخاذ الموقف الطبيعي الذي لا بد من اتخاذه في مواجهة هذا الجموح العنصري في اسرائيل الذي يعطي للحرب على غزة وأهلها دلالات إضافية، أخطرها انها «جولة في حرب مفتوحة على شعب فلسطين» وليست بأي حال رداً على صواريخ يدوية الصنع كان يطلقها الفتية المتحمسون رداً على الغارات الجوية وضربات المدفعية لمختلف أنحاء القطاع المحاصر، قبل أن تعلن اسرائيل الحرب الشاملة على المليون ونصف المليون من النساء والرجال والأطفال والشيوخ، في ذلك الشريط الساحلي من أرض فلسطين، المكتظ بسكانه الذين هم بالأكثرية الساحقة «لاجئون» للمرة الثانية أو الثالثة، الذين طردهم الاحتلال الإسرائيلي من بيوتهم في مدنهم وقراهم التي صادرها بقوة السلاح ليمنحها لمن استورد من المستعمرين الجدد.
على هذا فقد مرت القمة العربية الواحدة والعشرون على قضية الحرب الاسرائيلية على غزة، بكل الدمار والقتل الجماعي وتشريد عشرات الآلاف بعد هدم بيوتهم بالغارات الجوية والقصف المدفعي وقنابل الفوسفور الأزرق مرور الكرام … وظلت الوعود بإعادة الإعمار وفك الحصار عن هذا القطاع المجوع أهله، مجرد وعود، تنتظر إخضاع الفلسطينيين للشروط الإسرائيلية المحصنة بالتأييد الدولي والمموهة بالتغطية العربية المذهبة.
هذا يعني أن فك الحصار وإعادة إعمار ما هدمته إسرائيل بات يخضع للشروط الاسرائيلية، حتى وان أبلغت للفلسطينيين بلسان عربي.
لقد تم تبني الشروط الاسرائيلية من طرف الغرب، بدوله العظمى، أميركا بداية، ثم الاتحاد الأوروبي، ثم ترجمها العرب الى العربية الفصحى، وعهد الى المخابرات المصرية بأن تتولى تسويقها، مع التحذير من مخاطر رفضها بل حتى تعديلها … ولعل هذا ما يفسر أن يدور الحوار بين رفاق السلاح (سابقاً) في حلقة مفرغة، فالشروط المفروضة تتجاوز القدرة على قبولها، وبالمقابل فإن التورط في رفضها ينذر بمخاطر مصيرية ليس من السهل على أي طرف أن يتحمل مسؤوليتها، تاريخياً.
انه خيار بين الموت رمياً بالرصاص أو الموت جوعاً وعطشاً وسط البيوت المدمرة التي أقام أهلها الخيام على أنقاضها تدليلاً على تمسكهم بأرضهم التي هي بعض البعض من وطنهم المهدد بأن يؤخذ منهم كله، بعدما أخذت حتى الآن معظم أرضه (علينا ألا ننسى، للحظة، أن ثمة مليوناً من المستعمرين الذين استقدمتهم اسرائيل من أربع جهات الأرض، باتوا الآن يقيمون في المستعمرات التي بنيت منازلها المركبة على عجل، على أنقاض المدن والقرى والأرض الزراعية التي كان يعيش فيها ومنها أهلها الفلسطينيون الذين طردوا الى جهات أخرى داخل فلسطينهم، تمهيداً لطردهم الى ديار الشتات … بعد حين!) ..
[[[[[
نخلص الى بعض الاستنتاجات البديهية:
أولاً لا قمة عربية من دون فلسطين، أي من دون اتفاق عربي جدي على تصور واضح لمستقبل الصراع العربي الاسرائيلي وأدوار مختلف الدول العربية التي يفترض أن تتكامل في سياسة واحدة معتمدة، وبصيغة واحدة، في الداخل والخارج، فلا تكون لكل نظام عربي سياستان إزاء فلسطين، واحدة خطابية ومفرغة من المضمون للداخل، وثانية «واقعية» الى حد التخلي أو التفريط بذريعة أن أهل القضية أنفسهم مختلفون، والمنطق الواقعي يفرض أن يقادوا الى الحل الأدنى «لأنهم لا يملكون ترف الرفض..».
ثانياً لا قمة عربية من دون توافق عربي جدي على جدول أعمال محدد، ولو على قاعدة الحد الأدنى الذي لا يحرج بعض الأطراف فيغيبها، فإذا غابت تعطل القرار، ولا هو يلغي القضية فتصبح القمة مجرد مناسبة «لتتويج» التنازلات بالتواقيع العربية المحرجة لشعب فلسطين لأنها تلغي قضيته.
الأخطر أن الشعب الفلسطيني يصبح في هذه الحالة محاصراً بخيار من اثنين أحلاهما مر: إما أن يتمسك بحقوقه في أرضه لإقامة دولته، فيبدو مهدداً ـ بتطرفه ـ للتوافق العربي، أو أن «يتنازل» مرغماً فيتهم بالتفريط بأرضه وحقوقه فيها ويُعفى العرب من مسؤولياتهم فيتبنون المنطق الاستسلامي القائل:
لن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين ونحن سنكون خلفهم لا أمامهم!
ثالثاً لا قمة عربية من دون مصر، ليس لأن مصر هي أكبر دولة عربية فحسب، بل لأن مصر بالتاريخ والجغرافيا، بالوزن والدور، هي مركز الثقل العربي .. ان هي خرجت أو أُخرجت تفكك العرب معسكرات، وكانت القضية الفلسطينية الضحية الأولى والأخطر، باعتبارها حبل السرة بين العرب والجامع المشترك وملتقى آمالهم وطموحاتهم.
لكن السؤال يبقى مشروعاً: هل تقوم مصر بدورها الذي يؤكد شرعيتها كمرجعية عربية عامة، وكراع وضامن وحام لفلسطين قضية وشعباً له حقه البديهي في دولة له على بعض أرضه؟
إن مصر تلعب، منذ حين، دور صاحبة حق النقض، ولكن ما يحتاجه العرب منها بالذات دور صاحبة القضية المؤهلة لاستنقاذها مما يتهددها من مخاطر.
وسيبقى الأمل أن تعود مصر الى روحها فتعود الى دورها.
([) تنشر «السفير» النص بالتزامن مع صحيفة «الشروق» المصرية

Exit mobile version