لم يشذ المؤتمر السادس لحركة فتح الذي انعقد أخيراً، في بيت لحم داخل فلسطين المحتلة، ووسط ظروف يسيطر عليها الارتجال والتعجل والرغبة في إثبات الذات عبر استنفار مختلف أنواع العصبيات الجهوية والقبلية والعشائرية والتنظيمية، عن أي من مؤتمرات «الحزب الحاكم» في أية دولة عربية أو من دول العالم الثالث.
كان انعقاد المؤتمر هو الهدف.
تم تجاوز كل الشروط الضرورية لكي يكون المؤتمر فرصة لمراجعة شاملة للتجربة المأساوية للعمل الوطني الفلسطيني عموماً، وفتح منه في موقع «القائد» و«الرائد» في ماضي الكفاح المسلح، وفي حاضر «السلطة» اللاغية للكفاح والسلاح،
كما تم التساهل في قبول الشروط الإسرائيلية لكي ينتظم المؤتمر في سياق «العملية السلمية» التي أفقدت أهدافها أو تم حرفها عنها، فجاءت القيادات والكادرات التي كانت منسية، أو التي كانت قد نسيت عضويتها في تنظيم استغرق في «السلطة» حتى استنزفته، الى مؤتمر تم ترتيب انعقاده على عجل، وفي ظروف من التهيب والحذر وخوف التصادم مع الاحتلال، لكي يقروا ما كان قد تقرر في غيابهم، ومن دون الحاجة الى آرائهم وبالتالي الى أصواتهم!
لم تكن «فتح» هي فتح التي عرفها الفلسطينيون وسائر العرب في الستينيات والسبعينيات قائداً للكفاح المسلح، وقيادة لمنظمة التحرير الوطني الفلسطيني، برغم ارتفاع بعض شعارات الزمن الجميل من خلف منصة الرئاسة التي تصدرها أحد أبرز رجالات اتفاق اوسلو الذي وضع نقطة الختام للكفاح المسلح وكل ما يتصل بالتحرير، وهو «الرئيس المطلق» لمختلف الهيئات والمجالس التي صارت «إدارات» حكومية.
«فتح» الآن هي «فتح» السلطة. والمؤتمر محكوم بأن يكون أقرب الى مجلس نيابي معين يناقش برنامجاً لحكومة محكومة بالانضباط تحت سقف الاحتلال والاتفاقات المبرمة التي يشكل اتفاق أوسلو ذروتها، أما ما بعده فهو أدنى فأدنى إذ انه محكوم بما يقرره المحتل، بدءاً من الإذن بانعقاد المؤتمر وصولاً الى الإذن بدخول الأعضاء أو رفض السماح بدخولهم، أو اشتراطه تحديد درجة ارتفاع الصوت خلال المناقشات، فضلاً عن تحكمه بجدول أعمال المؤتمر، حتى لا ينسى الأعضاء أنهم إنما اجتمعوا بإذنه ومن أجل تشريع الوضع القائم في ظل سيطرته غير المحدودة. فلا يأخذهم التوهم أنهم لبوا النداء لتحرير فلسطين من النهر الى البحر وقبل اختتام مؤتمرهم العتيد.
لا حاجة الى أوراق عمل. لا حاجة الى تقارير تفصيلية عن حال التنظيم ـ الأم. لا حاجة الى البحث في ظروف حياة الفلسطينيين في أقطار الشتات.
كذلك لا حاجة لمراجعة وقائع المرحلة الفاصلة بين المؤتمر الخامس وهذا المؤتمر، والتي تزيد على عشرين عاماً. المراجعة جلابة هموم. المراجعة ولادة خلافات. المراجعة قد تؤدي الى صدامات وانشقاقات. فالمراجعة تعني المحاسبة، بصيغة أو بأخرى. وما دام القرار عند «الرئيس» وحده، فالمراجعة تعني محاسبة من لا يحاسب ولا يجوز أن يحاسب بل لا يجوز أن يمس من قريب أو بعيد. المس بالرئيس يعني إهانة تاريخ فتح. أليس هو وريث الزعيم القائد المؤسس؟! من يضمن ألا تتجاوز المحاسبة شخص الرئيس لتصل الى القائد الراحل الذي أضفى عليه الاغتيال الإسرائيلي، فضلاً عن إنجازاته خلال مرحلة النضال، هالة من القداسة؟!
إنه مؤتمر الحزب الحاكم، وبالتالي فأي نقد، ولو اتخذ طابع المراجعة، قد يهدد السلطة، وقد يوفر المزيد من الذخيرة للإخوة ـ الأعداء في التنظيمات الأخرى، ولا سيما أولئك الإخوة من حماس، الذين انشقوا بغزة واحتموا بالسلطة عليها خلف جدار الاحتلال الإسرائيلي.
وفي مؤتمر للحزب الحاكم يتصدره رئيس كل المؤسسات، بدءاً بمنظمة التحرير المنسية، مروراً بالمجلس الوطني الفلسطيني، وصولاً الى الهيئات القيادية لحركة فتح، المجلس المركزي، المجلس الثوري، وانتهاء بحكومة السلطة، لا يجوز أن يتجاوز النقاش العموميات، وإلا تعرض البنيان كله للتصدع… من يجرؤ على تحمل مسؤولية انهيار كل الماضي على الحاضر بما يقضي حكماً على المستقبل، مستقبل فتح (وضمنها السلطة) وبالتالي فلسطين؟!
إنه مؤتمر الحزب الحاكم لصاحبه السيد الرئيس. لا ضرورة لتقرير شامل يغطي فترة العشرين سنة من الانقطاع والتباعد والخلافات التي بلغت حد الحروب الإعلامية. وليس من اللائق مساءلة السيد الرئيس سياسياً أو تنظيمياً أو مالياً وسط هذه التظاهرة الحاشدة التي تلاقى فيها أكثر من ألفين وثلاثمئة عضو (أصيل أو معين) جاؤوا من أربع رياح الأرض للتلاقي في فلسطين ومن أجلها، وبعضهم يدخلها لأول مرة منذ ولادته..
إنه مؤتمر للحزب الحاكم. والحزب هو السيد الرئيس. والسيد الرئيس تحمل بشخصه المسؤوليات جميعاً طوال السنوات السابقة، فهل تجوز مكافأته عن القيام بأعباء العمل والمهمات الجسام منفرداً، بتعريضه للمحاسبة؟!
إنه مؤتمر للحزب الحاكم، وأي حديث عن الثورة وعن الكفاح المسلح وعن التحرير «تجاوز» أو «خروج عن الموضوع» أو «مزايدة رخيصة»، خصوصاً اذا ما كان السائل قد اجتاز العديد من الحواجز التي نصبها الاحتلال الإسرائيلي على امتداد خط السير من عمان الى بيت لحم داخل الأرض المحتلة.
إنه مؤتمر للحزب الحاكم، يعقد بإذن إسرائيلي، نتيجة وساطة أميركية معززة ببعض المساعي العربية الحميدة، مع اشتراطات واضحة بألا ينكأ جراح الماضي بالعودة الى أحاديث الكفاح المسلح والشروط الثورية لقيام الدولة الفلسطينية على كامل الأراضي التي كانت خارج قبضة الاحتلال في 4 حزيران 1967.
إنه مؤتمر للحزب الحاكم. صحيح أن فتح لم تكن «حزباً» بالمعنى المعروف للأحزاب في أي يوم، ولكنها الآن حزب حاكم، وبالتالي فإن الحكم يعوض أي نقص في البرنامج السياسي، أو حتى في العقيدة، وثمة مساحة للكلام، بطبيعة الحال. فمن الضروري إشاعة مناخ من الديموقراطية في القول ما دام القرار حقاً حصرياً لصاحب القرار. وسيكون غبياً من يقف في مؤتمر كهذا ليسائل «السيد الرئيس» عن التحرير وعن الكفاح المسلح وعن الميثاق الوطني، وعن كل أدبيات المرحلة السابقة على اتفاق أوسلو، بل حتى عن مدى الالتزام الإسرائيلي بذلك الاتفاق البائس، فضلاً عن خريطة الطريق، أو عن مآل الجهود التي بذلت لوقف بناء جدار الفصل العنصري، أو احتمالات نجاح المساعي الدبلوماسية لإقناع حكومة بنيامين نتنياهو بوقف بناء المزيد من المستعمرات أو بوقف حيلة «التوسع الطبيعي» للمستعمرات لاستيعاب عشرات وربما مئات الألوف من وحوش المستوطنين المستقدمين من أربع جهات الأرض!
إنه مؤتمر الحزب الحاكم. وهو يعقد برعاية دولية شاملة لتأمين الغطاء الضروري لتنازلات جديدة سوف تتم تحت غطاء من الشرعية الثورية لقيادة فتح ممثلة بأعلى هيئاتها، المؤتمر العام. ولقد استلزمت عقد هذا المؤتمر، الذي تم بسرعة قياسية، ووسط تسهيلات غير مسبوقة، جهود دولية ـ عربية خارقة، تولتها الإدارة الأميركية الجديدة بعد اطمئنانها الى أنه لن يخرج عما اتفق عليه من شروط تسمح بانعقاده، وبعد ضمانات ملزمة بألا يخرج بمقررات من شأنها أن تعقّد مساعي التسوية أو تنسفها، والعياذ بالله.
إنه مؤتمر للحزب الحاكم. وبالتالي فلا مجال للمزايدات. إن الأمن هو البديل العملي عن الثورة. والسلطة هي البديل العملي عن الدولة، أفليست هي الإطار الناجح للكيان السياسي المنشود. ثم ان مشكلة القدس عويصة ومعقدة وتحتاج الى مجهود استثنائي للفتوى التي يمكن أن تفصل بين الحقوق المشروعة لكل من اليهود والمسلمين والنصارى في هذه المدينة المقدسة.
أما قضية حق عودة اللاجئين الفلسطينيين الى أراضيهم التي طردوا منها قبل ستين عاماً أو يزيد فهي تذكر بكلمات مؤثرة لواحد من مؤسسي إسرائيل الكيان هو ديفيد بن غوريون، الذي قال ذات مرة: إن ثمة مشاكل كبرى ومعقدة لا يمكن حلها، لذلك فمن الأفضل أن تترك لتشيخ ثم تموت!
[[[
ليس أسهل من «المزايدة» على حركة فتح، في هذه اللحظة!
وليس أسهل على حركة فتح من أن ترد على كل من يسائلها حول قصور المؤتمر عن معالجة القضايا الفعلية للشعب الفلسطيني بالقول: إنها تحاول استنقاذ ما يمكن إنقاذه من قضية فلسطين، ومن حصيلة نضال هذا الشعب العظيم على امتداد حقبة ما بعد اتفاق أوسلو وإقامة «السلطة»!
لقد واجه المؤتمر مجموعة من حقائق الحياة التي حكمت مساره ونتائجه من بينها على سبيل المثال لا الحصر:
ـ ان «فتح» اليوم هي جديدة تماماً. انها مصابة بطاعون «السلطة». وهي بالتالي غير فتح التي عرف الفلسطينيون والعرب، خصوصاً خارج فلسطين.
ـ ان «فتح» الداخل كانت أقوى بصمودها قبل السلطة، منها اليوم، وهي مثقلة بأغلال السلطة وقيودها والمسؤوليات اليومية الملقاة على عاتقها، والتي تشمل وجوه الحياة جميعاً واحتياجات شعب الداخل من فلسطينيي الضفة وقطاع غزة (الأسير، منذ أن تسلمت زمام الأمور فيه حركة حماس، بحسب ما تقوله فتح).
ـ ان حركة «فتح» الداخلة في صراع مصيري مع حركة حماس، التي تريد أن تدعي لنفسها «العودة الى الجذور» قد تجد المخرج في المزيد من التنازلات بدل أن تلجأ الى «المزايدة» المستحيلة في ظل التمسك بالسلطة، وهذا مقتل لما تبقى من تراثها النضالي التاريخي… لكنها تراهن على أن حماس لا تقل تعلقاً عنها «بالسلطة» على غزة، ثم ان العرب هم ـ بمجموعهم ـ مع فتح ونهجها، وليسوا مع حماس التي يرونها خطراً على أنظمتهم، وبالتالي فهم محكومون بالتحالف مع فتح، مع إدراكهم أنها تفرط في القضية المقدسة التي كاد يذهب بها تفريطهم أو تحريضهم للسلطة على التفريط.
رحم الله محمود درويش الذي غاب قبل أن يشهد فصل الختام الحزين، والذي نسي المؤتمرون الإشارة الى ذكراه.
[ ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية