لم يكد العرب، وفي مختلف أقطارهم، خارج مصر, يتعرفون الى الدولة المركزية حتى باتوا يشهدون على انهيارها.
كانوا قد تعرفوا ودفعوا ثمن المعرفة غالياً، الى الحكام، ملوك مدن وحكام مناطق بعيدة عن السلطة المركزية الى حد الاستقلال بل حتى العداء، وأمراء بالوراثة العائلية أو بالأمر السلطاني،
وعلى امتداد قرون عاشوا في إقطاعيات أو دويلات مقتطعة من جسم الولاية الخاضعة نظرياً لسلطة الوالي الذي كان «يبيعه» السلطان أقطاعاً أو «يلزمه» الجباية فتتوسع إمارته المستحدثة بقدر الرشوة التي يدفعها، وكلما دفع أكثر تمددت مساحة حكمه، وان ظل خاضعاً ـ نظرياً ـ للسلطان، حتى يأتي من يدفع أكثر منه فيأخذ الحكم بسيف السلطنة الطويل وكيس الرشوة السمين!
في مستهل القرن الماضي، وعبر الحرب العالمية الأولى، كان الغرب قد أعد خطته لوراثة السلطنة في المشرق العربي، على وجه الخصوص، بينما كانت أكثر ولايات السلطنة في الغرب الأوروبي قد أعلنت استقلالها.
كان لا بد من تقاسم التركة فكانت معاهدة سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا، وهكذا أخذت بريطانيا فلسطين والعراق، وابتدعت كيانا ستكون له وظيفة خطيرة مستقبلاً، هو شرقي الأردن وقد جعلت منه إمارة مستقلة، أرضه مقتطعة من سوريا، وهو يشكل عازلاً بين فلسطين والعراق، ثم إنه بباديته الواسعة يصلح لان يكون ملجأً للفلسطينيين الذين سيطردهم «الإسرائيليون» الذين سيقطعهم الانتداب البريطاني فلسطين، تحقيقاً لوعد قطعه لهم اللورد بلفور قبل ثلاثين عاماً (1917)، فتقام دولة إسرائيل في العام 1947.
أما لبنان فقد أعيد رسم جغرافيته بضم «الأقضية الأربعة» التي كانت تابعة للولايات «السورية»، في حين قسم الانتداب الفرنسي سوريا ذاتها الى أربع دويلات، على قاعدة طوائفية، مع وعد ضمني للأتراك تم تنفيذه لاحقاً باقتطاع لواء اسكندرون ومعه كيليكيا لإلحاقه بتركيا.
وكان ضرورياً انتظار الحرب العالمية الثانية وهزيمة فرنسا فيها لكي تحصل سوريا التي أعاد شعبها توحيدها ومعها لبنان (الذي ابتدع له نظام سياسي خاص) على الاستقلال، بينما بريطانيا الموجودة في منطقة الجزيرة والخليج منذ زمن بعيد، وإن كانت قد ألحقت المشيخات هناك بنائب الملك في الهند، تعيد رسم الخريطة فتنشئ دويلات لم يكن لها وجود في أي يوم، تاركة لعبد العزيز آل سعود أن يوحد شبه الجزيرة تحت شعار السيف والنخلة متقاطعاً مع شعار التوحيد «لا إله إلا الله» لينشئ المملكة العربية السعودية بعد أن ساعدته على هزيمة الشريف حسين في الحجاز ، وتولت بنفسها استخدام شعاره وأنجاله في الحرب على السلطنة، ثم لتثبت الكيان الأردني بابنه عبد الله أميراً ثم ملكاً، بينما أزاحت فيصل الأول من دمشق حيث نادت به الحركة العربية ملكاً على العراق، تاركة سوريا للفرنسيين.
بالمقابل كانت بريطانيا التي احتلت مصر في أواخر القرن التاسع عشر قد حاولت غواية الملك فيها بتقاسم السودان، فلم ينل من ذلك إلا اللقب (ملك مصر والسودان) في حين أسست هذه الشراكة لحالة من الكراهية أو النفور في السودان تجاه العرش المصري الذي ارتضى أن يكون غطاء تمويهياً للاستعمار البريطاني.
أما شمال أفريقيا فكان متروكاً للفرنسيين، تونس والجزائر والمغرب، مع شراكة مع إيطاليا في ليبيا، سرعان ما تحولت ثلاثية خلال الحرب العالمية الثانية، ثم غدت مع اكتشاف النفط فيها رباعية، إذ جاء إليها الأميركيون.
على أن الجزائر كانت في عين فرنسا بعض أرضها الأفريقية، وليست مستعمرة فحسب، حيث منع فيها بناء المساجد وألغيت الكتاتيب وطوردت اللغة العربية، وأخرج أهلها من المدن، لا سيما على الشاطئ ، لتكون الغالبية فيها فرنسية، ولم يتبق فيها من الجزائريين إلا الكتبة والعمال والمجندون لحماية مستعمريهم.
[[[
ها نحن اليوم، بعد أقل من مئة عام على إقامة هذه الكيانات السياسية في المشرق العربي، عامة، ومعه السودان الذي كان تحت استعمار بريطاني أشركت فيه مصر شكلاً، لتعميق الانفصال بين الشعبين الشقيقين، أمام ملامح خريطة جديدة لهذه الأقطار،
فمن السودان الى اليمن، مروراً بالعراق، مع إيحاءات قريبة تتبدى في لبنان وفي بعض أقطار المغرب العربي، الجزائر خصوصاً، فضلاً عن الصومال وما أدراك ما الصومال وقراصنته في البر والبحر، تتوالى الأحداث الدالة على انهيار الدولة المركزية التي غالباً ما استولدت قيصرياً في هذه الأقطار بعد اللعب بخرائطها الجغرافية وأعراق سكانها وهوياتهم.
أما في السودان فكل الدلائل تشير الى أن الانتخابات المزمع إجراؤها في العام المقبل ستنتهي بنتائج سياسية تفضي إلى انفصال الجنوب في دولة أفريقية تستقل عن الشمال ( العربي) وتحظى برعاية دولية شاملة يتشارك فيها الغرب كله، بما في ذلك الفاتيكان، وبعض (الشرق)، بعنوان الصين.
لقد عانت هذه الدولة العربية ـ الأفريقية أهوال حروب أهلية متعددة، بعضها بدوافع عنصرية، وبعضها بدوافع قبلية، وبعضها تحت لافتة دينية، ولكنها بمجموعها كانت تشكل تهديداً جدياً للدولة المركزية، أنهكها حتى مهّد لانهيارها وتوزع «شعوبها» دولاً أو مشاريع دويلات، بحسب الأعراق أو الدين أو … النفط ، وهو بيت القصيد!
وأما في اليمن فإن شعب هذه الدولة التي لم تعرف توحد أجزائها إلا قبل خمس عشرة سنة، وبعد حروب تلت حروباً قبلية و«عقائدية» كانت تعبيراً عن مرحلة قاسية من مراحل الصراع الدولي والتيه المحلي والفرقة العربية.
كلنا يتذكر ثورة اليمنيين على حكم الإمامة، ويتذكر الدور المصري الرائد والمكلف في حماية هذه الثورة التي أقامت الجمهورية بتضحيات هائلة وعبر مسلسل من الحروب الدموية مع السعودية التي احتضنت القبائل الموالية للإمام ولها عبره.
وكلنا يتذكر مسلسل الانقلابات العسكرية المدعومة من الخارج التي توالى تنظيمها، بعد انسحاب الجيش المصري إثر هزيمة 5 حزيران ـ يونيه ـ 1967منها، والتي استنزفت الجيش والشعب في اليمن، الى أن استتب الأمر للعقيد علي عبد الله صالح ابتداء من العام 1978.
ثم اننا نتذكر الحرب بين الشمال والجنوب التي نشبت في العام 1994، بتحريض من الخارج وبعد صراعات دموية على السلطة في عدن كلفت أكثر من خمسة عشر ألف قتيل، والتي انتهت بهزيمة الحزب الحاكم في الجنوب وقيام دولة الوحدة التي أعادت جمع الشطرين في جغرافية الدولة المركزية الواحدة، بعدما اقتطعت منها السعودية بعض المناطق التي كانت موضع نزاع… والكلمة دائماً للأقوى، خاصة اذا ما كان هو الأغنى مع فارق أسطوري في الدخل.
اليوم، تدور رحى ما يسمى «الحرب السادسة» بين الحكم المركزي في صنعاء، بجيشه وأسلحته وأخطرها الطيران، وبين من يطلق عليهم تسمية «الحوثيين» نسبة لأميرهم الذي ينطلق من نسبه الشريف وخلافه السياسي مع الحاكم في صنعاء (وقد كان حليفه الى ما قبل فترة وجيزة).
وفي حين ينكر الحوثيون أنهم يريدون الانفصال، أو أنهم يريدون فرض المذهب الشيعي (وهو يختلف جوهرياً وليس فقط في التفاصيل عن الزيدية التي تكاد «سنية» في تقاربها مع الشافعية)، فإن التهمة الرسمية تطاردهم بأنهم يهددون الدولة المركزية لحساب الخارج… مع تجهيل هذا الخارج.
إن الدولة المركزية التي تقاتل شعبها إنما تبرر سقوطها.. وسقوط الدولة المركزية في صنعاء سيوفر الفرصة لتمزيق اليمن وتقاسمه، فتأخذ السعودية منه بعضه، ويتناتش بعض الخليج أجزاء منه، وثمة من يحاول إعادة إحياء «دولة الجنوب» بتبريرات تتراوح بين العقيدة والطائفية ومصالح الآخرين!
إن الحكم الفردي هنا، كما الأمر في السودان، بين الأسباب القوية لسقوط الدولة المركزية، خصوصاً عندما يحاول رئيس الجمهورية الوليدة تحويلها الى ملكية وراثية، وهذه ظاهرة غير طبيعية وغير مقبولة وان كانت الظروف تكاد تجعلها قاعدة ثابتة في الحكم!
فأما العراق فإن الاحتلال الأميركي الذي ورث حكم الطغيان فيه ممثلاً بصدام حسين قد اعتمد القاعدة الاستعمارية الأبدية «فرّق تسد»، وهكذا قد لعب على الأوتار الطائفية والعنصرية جميعاً، وحاول استغلال لعبة السلطة لتحريض السنة على الشيعة والشيعة على السنة، الأكراد على العرب، والأقليات على الأكثرية وبالعكس، وفجر أحقاداً مكبوتة وثارات منسية، وكانت السلطة هي الملعب الواسع لشبك الكل بالكل وإشغالهم عن الاحتلال.
وصورة العراق اليوم مفزعة: إن ربع شعبه على الأقل، أي أكثر من ستة ملايين عراقي، مشرد في الخارج، ونصفه مشرد في الداخل، إذ ذهب كل الى أكثريته هاجراً مسكنه في حيه أو في مدينته أو في قريته ليلتحق بأقارب أو بأفخاذ من عشيرته في أنحاء أخرى تشكل فيها الأكثرية.
كما أن الصراع على السلطة بين أبناء الطائفة ذاتها، كما نشهد اليوم بين أعيان الشيعة وأعيان السنة من العرب، فضلاً عن مشروع التصادم المحتمل بين العرب بمجموعهم والكرد بمجموعهم طلباً للانفصال، وكل ذلك تحت إشراف الاحتلال الأميركي وباستغلال انحيازاته المقصودة أو باستدراج مثل هذا الانحياز بإبداء الاستعداد لتعاون مفتوح يزايد فيه كل طرف على الآخر.
كل ذلك ينذر بتدمير الدولة المركزية في العراق وليس فقط بتفسيخها وتمزيقها فيدرالية طوائف وعناصر تديم الاحتلال الأميركي وتفتح أبواب أرض الرافدين على مصاريعها أمام التغلغل الإسرائيلي.
ولما كانت الدولة المركزية شرط وجود وشرط حياة للسودان كما لليمن وكما للعراق، فإن غياب مثل هذه الدولة يعني تفتيت هذه الأقطار الى عدد لا يحصى من الدويلات أو الإمارات الطائفية والمذهبية أو العرقية التي تمكن للاحتلال، وتؤمن له استمرار تدفق العوائد النفطية، خصوصاً أن البحوث قد دلت بشكل قاطع على أن أرض العراق تحتوي على واحد من أكبر خزانات النفط في العالم.
يبقى لبنان المهدد في وحدته الوطنية، وبالتالي في وحدة كيانه السياسي، خصوصاً أن سنوات الحرب الأهلية قد انتهت بتسويات لم تفد كثيرا في تدعيم الدولة المركزية.
وأما فلسطين وحلم الدولة فيها فإن التطورات التي تكاد تستنفد قداسة قضيتها تجعل هذا الحلم أقرب الى الكابوس، بينما يترسخ كيان «دولة يهود العالم».
وهكذا يكون انهيار الدولة المركزية في أي دولة عربية، كبرت أم صغرت، تمكيناً لإسرائيل التي قد تغدو الدولة المركزية الوحيدة في مشرق الوطن العربي، خصوصاً اذا ظلت مصر خارج الصراع العربي ـ الإسرائيلي الذي استهلك الدويلات التي اصطنعها الاستعمار الغربي ممكناً للدولة الوحيدة التي تنتمي اليه: إسرائيل.
و… إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم!
[ ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية