ظهيرة يوم الثلاثاء الواقع فيه الثالث من آب (أغسطس) الماضي تفجر «الخط الأزرق» الذي أحلته حرب تموز 2006 محل الحدود الدولية مع فلسطين المحتلة بالدم، اثر اشتباك بين الجيش اللبناني وقوات الاحتلال الإسرائيلي، فسقط ثلاثة شهداء لبنانيين بينهم جنديان ومراسل صحافي، بينما قتل ضابط في جيش العدو وأصيب عدد من جنوده.
اهتز العالم جميعاً، وتوالت ردود الفعل الدولية مستغربة ومستنكرة وآخذة على الجيش اللبناني أنه واجه ـ فوق أرضه ـ العدو الإسرائيلي بالرصاص، فصد اختراقه لمنطقة لبنانية، وان اعتبرتها القوات الدولية ملتبسة التابعية ولذلك لم يشملها الخط الأزرق، بل أبقاها «رمادية»… وبالتالي نقطة احتكاك دائمة.
تفرغت سلطة الاحتلال الإسرائيلي لمعالجة هذا التطور الدراماتيكي. استنفرت جيشها و استنفرت معه أصدقاءها الكثر في العالم، بدءاً بالعواصم الكبرى الى الوسطى والصغرى، كما أثارت رعب أصدقائها من أهل النظام العربي الذين لم يظهر معظمهم أي تضامن علني مع لبنان وجيشه الصغير، بل لعل بعضهم قد اتصل بأهل الحكم في لبنان متخوفاً، مذعوراً، معلناً، سلفا، عجزه عن حماية لبنان من مغبة هذه المغامرة المتهورة في هذا الظرف العصيب.
«كيف تجرأ هؤلاء الجنود بأسلحتهم الخفيفة (والعتيقة) على إطلاق النار على الجبار الإسرائيلي؟ وكيف ستواجهون الموقف الصعب؟ لقد أسأتم الى قوات الطوارئ الدولية، فماذا تفعلون لو انسحبت؟ لسوف تكون شهادة قيادتها أمام مجلس الأمن ضدكم! ثم، لماذا ورطتم أنفسكم وورطتمونا معكم في هذا المأزق؟».
تصرفت إسرائيل، ومعها العالم، بما يؤكد أن قوات الطوارئ إنما جاءت كحرس لحدودها وليس لتأمين لبنان الضعيف عسكرياً من مخاطر اجتياحاتها المتكررة منذ العام 1972. «فالقبعات الزرق» تقيم في الأرض اللبنانية، وتتحرك فوقها، وليس من مهماتها التصدي، مثلاً، للطيران الحربي الإسرائيلي، الذي يجوب الآفاق اللبنانية يومياً، ولا منع الطائرات من دون طيار من اختراق الأجواء من أقصى الجنوب الى أقصى الشمال، تصور كل من وما يتحرك، وترصد حركة الناس في قراهم التي أعاد أهلها بناءها للمرة الرابعة أو الخامسة نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، خلال فترة الاحتلال، وقبل التحرير الذي أنجزته المقاومة في 25 أيار (مايو) من العالم 2000.
بل إن إسرائيل قد تصرفت، وجعلت العالم يتصرف، وكأن يوم الثالث من آب (أغسطس) 2010 هو اليوم الأول في الحرب الجديدة… السابعة التي تشنها على لبنان! وعبر تصرفها المحموم تكشف حجم الرعب الذي تعيشه، فحرب تموز لا تزال وقائعها طرية في ذاكرتها… والاشتباك وقع في غمار ذكراها الرابعة!
الجديد أن الجيش هو من أطلق النار، هذه المرة، وهذا تطور غير محسوب وليس في التقدير مطلقاً! فالجيش الصغير عدداً والفقير عدة هو ابن الأرض. والشهداء الثلاثة الذين سقطوا من أبناء الجنوب، ليسوا وافدين (كالفالاشا)، وليسوا طارئين. أحد الجنديين ابن درب السيم، وهي حارة في ظاهر صيدا، والثاني ابن دير الزهراني، التي تقوم على حراسة صيدا من جنوبها، والمراسل الصحافي الذي قتله التزامه الوطني بواجبه المهني جنوبي أيضا، تتظلل بلدته الكفير جبال حرمون التي تتدرج نزولاً مع هضاب الجولان السورية لتنغرس في لحم السهول الفلسطينية. وهذه القرى الثلاث قد هدمتها الغارات والاعتداءات الإسرائيلية بدل المرة مرات، وهجرت أهلها ألف مرة… لكن أهلها كانوا يعيدون بناءها. وبعد حرب تموز، وفشل العدو الإسرائيلي في الانتصار على المقاومة، أي أهل الأرض، ارتفع البناء مع الطمأنينة الى أعلى… واختار الأهالي أن يجعلوا بيوتهم الجديدة فوق التلال والهضاب وليس في سفح الخوف. لقد اطمأنوا الآن الى قوتهم، مع هزيمة الحرب الإسرائيلية، مرة جديدة. فمن قبل، تحديداً في الخامس والعشرين من أيار (مايو) 2000 أفاقوا فلم يجدوا أثرا لجيش الاحتلال الإسرائيلي الذي اجتاح تلك الأرض في 16 آذار (مارس) 1987، وأنشأ فيها «منطقة حكم ذاتي» منفصلة عن الدولة في بيروت، واستمر حتى التحرير.
قبل هذا «الحادث الخطير» كانت إسرائيل مسترخية، تواصل قضم فلسطين على مهل وباستمتاع ظاهر، لا تنغصه الجولات المكوكية للوسيط الأميركي بلا موضوع جورج ميتشل، الذي لم يكن يملك للتأثير على الاحتلال الإسرائيلي سوى ابتسامته البلاستيكية والصبر على الرفض المتكرر لعروضه المتضمنة، مع كل جولة، المزيد من التنازلات الفلسطينية.
حادث واحد على الحدود (الافتراضية) مع لبنان استنفر إسرائيل والعالم معها، جميعاً: إسرائيل المفاعل النووي والطيران الحربي الأقوى في نصف العالم، والقبة الحديدية والصواريخ التي تطاول الشمس، مالكة وصانعة أقوى الدبابات، مصدرة الطائرات من دون طيار التي تجوب الآفاق من حولها دون رادع، مالكة الأسطول البحري الجبار بالغواصات التي تسير بالطاقة النووية: هذه الإسرائيل الجبارة اهتزت نتيجة «حادث حدودي» مع الجيش اللبناني… لماذا؟ هل لان تجربتها في حرب تموز قد جعلتها تخاف مقاومته التي قاتلت لثلاثة وثلاثين يوما في أرضها، فلم يهرب المجاهدون ولم ينسحبوا وواجهوا وثبتوا في مواقعهم حتى لحظة إعلان «وقف العلميات الحربية»؟
صدام محدود، مفاجئ وغير مخطط له، هز هناء إسرائيل ـ الثكنة هائلة القدرات، براً وبحراً وجواً…
فصيلة من الجنود اللبنانيين، أسلحتهم فردية. بلا حماية جوية. ولا ثكنات لهم في المنطقة الحدودية بعدما دمرت الاعتداءات الإسرائيلية الثكنات القديمة فلم تجدد. والطيران الحربي الإسرائيلي، بطيارين ومن دونهم، يحلق فوق رؤوسهم على مدار الساعة. فوق مقار قياداتهم العليا، السياسية منها والعسكرية. فوق القصر الجمهوري وسرايا الحكومة والبرلمان و«الداون تاون» والمصارف وعلب الليل والملاهي جلابة المصطافين وعلب الليل حيث الفتنة لا تنام: هذه الفصيلة من الجنود البسطاء، الفقراء الى التجهيز والحماية، أقضّت مضجع إسرائيل وجعلتها تستنفر العالم لحمايتها!
لا تحتمل هذه الدولة الهائلة القوة والقدرات المادية هزيمة ولو صغيرة. هي مطمئنة الى حدودها جميعاً. العالم يحرس جهاتها الأربع، البرية والبحرية.. والجوية. في الجولان قوات دولية. في لبنان قوات دولية. في سيناء قوات مراقبة دولية خارج نطاق الأمم المتحدة، في الأردن تحرسها كلمة الشرف الملكية والمصالح المشتركة وبعض المراقبين من حول مجرى نهر الأردن… فضلاً عن سيفها الطويل!
إسرائيل، إذاً، ليست محاصرة، بل هي تحاصر كل دول جوارها، براً وبحراً وجواً… فضلاً عن أنها تلتهم فلسطين مدينة مدينة، قرية قرية، بالمستوطنات التي تتوالد من ذاتها فتمسح آثار الوجود التاريخي العريق للشعب الفلسطيني في أرضه على مر القرون، وصولاً الى القدس التي تكاد تبيد أي أثر لأهلها الذين كانوا أهلها دائماً!
حادث حدودي واحد على تخوم بلدة العديسة، غير بعيد عن «بوابة فاطمة» الشهيرة في خراج بلدة كفركلا، المواجهة للمستعمرة الإسرائيلية مسكاف عام، التي كان اسمها الأصلي «المطلة»، وكانت لبنانية، جعل مراكز القرار في العالم كله تستنفر: مجلس الأمن، الأمم المتحدة، قيادة قوات الطوارئ الدولية (اليونيفيل).
دائماً إسرائيل هي الضحية. تحتل، تقتل، تدمر المدن والقرى، تحاصر شعب فلسطين كله، وليس في غزة فحسب. تحاصر مصر وسوريا والأردن ولبنان، براً وبحراً وجواً. ومع ذلك فهي الضحية! تقتل المتطوعين لنجدة أهل غزة في باخرة الحرية في عرض البحر، ثم تظهر ضحاياها مسؤولين لحملهم الهراوات وسكاكين المطبخ!
مرة أخرى يثبت لبنان، الصغير مساحة، الضعيف بإمكاناته العسكرية، القوي بإرادة المقاومة فيه، انه «أقوى من إسرائيل»… وليس الحادث الحدودي الأخير إلا الشاهد الحي على الرعب الإسرائيلي من إرادة المقاومة.
… على أن إسرائيل مطمئنة الى أن أهل النظام العربي سيتولون بالنيابة عنها ولحسابها مكافحة هذه الآفة الخطيرة، مهددة السلام في الكون، والتي اسمها المقاومة.
شهداء لبنان الجدد قدموا الدليل على أن إسرائيل قوية أولا وأساساً بالضعف العربي وجبن النظام العربي عن المواجهة.. وبعد ذلك يمكن الحديث عن القبة النووية وأساطيل الطيران والبحرية والجيش الذي لا يقهر… والذي كسر هيبته بعض الجنود البسطاء، بسلاحهم الفردي، لأنهم يستندون بظهورهم الى تجربة ناجحة حققتها المقاومة بالتحرير ثم بالانتصار على الحرب الإسرائيلية قبل أربع سنوات من يوم الاشتباك الذي أضاء مصباحاً في الليل العربي البهيم!
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية