مع كل جولة جديدة من جولات التفاوض بين «السلطة الفلسطينية» وحكومة الاحتلال الإسرائيلي، تحت الرعاية الأميركية، يضع الفلسطينيون ـ ومعهم معظم العرب ـ أيديهم على قلوبهم متوقعين إقدام هذه «السلطة» على ارتكاب تنازل جديد يمس جوهر الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني في أرضه ومستقبله فيها.
أسباب التخوف مفهومة ومحددة، وان كانت متعددة، بينها:
اولاً ـ يتواصل تهافت موقف أهل النظام العربي، ويتحول تدريجياً الى أداة ضغط شديد ليس على «الإسرائيلي» الذي كان عدواً «فبات أقرب» الى «الحليف» بل على الطرف الفلسطيني الضعيف أصلاً، ولأسباب شتى بينها «الداخلي» وبينها «العربي» واستطراداً «الدولي».
وهكذا فإنه مع كل جولة جديدة للتفاوض، والتي غالباً ما تستدعي تنازلات إضافية من «السلطة الفلسطينية» نتيجة ضغوط عربية عليها، بوهم استمالة الإدارة الأميركية، وشراء تأييدها، يصير المفاوض الإسرائيلي القوي بما يكفي، أقوى بهذه «الرشى» العربية للإدارة الأميركية التي لا تجد والحالة هذه بداً من الانحياز الفاضح الى المطالب الإسرائيلية.
وفي حالات مشهودة تبدى موقف الرئيس الأميركي الأسمر ذي الجذور الإسلامية أقسى على الفلسطينيين، ومعهم أهل النظام العربي من الإدارات السابقة.
تكفي الإشارة الى ان الرئيس الأميركي أوباما قد اندفع قي تأييد شعار إسرائيل دولة يهود العالم الى أبعد مما ذهب اليه سلفه الرئيس السابق جورج.و.بوش أمام ارييل شارون في العام 2004، وأبعد مما قصده الجنرال كولن باول الذي كان أول مسؤول أميركي يستخدم تعبير «إسرائيل دولة يهودية» وذلك في العام 2001، والذي قال في ما بعد إنه لا يعرف كيف ومن دس هذا التعبير في خطابه الذي توجه فيه الى الفلسطينيين.
ثانياًـ ان هذه السلطة، بوضعها الراهن، مطعون في شرعيتها فلسطينياَ… حتى لو تجاوزنا موضوع «الانتخابات» وانتهاء مدة التفويض الشعبي، التي «منحتها» اتفاقات اوسلو لها: فغزة قد انفصلت، بالمليون ونصف المليون فلسطيني فيها، تحت «سلطة» أخرى، هي «حماس»، وبالتالي فهي خارج البحث، مبدئياً، ووضعها معلق على نتائج مفاوضات بين سلطة لا تمثلها (عملياً) والاحتلال الإسرائيلي… هذا فضلاً عن ان فلسطينيي الشتات وهم يعدون أكثر من إخوتهم في الأرض المحتلة، خارج البحث، حتى إشعار آخر.
ولعل شعور رئيس هذه السلطة بأن النقص في شرعيته كان بين أسباب اندفاع الإسرائيلي الى ذروة تطرفه، متكئاً في الوقت ذاته على انحياز الإدارة الأميركية، الذي بات مكشوفاً وان استمر أهل النظام العربي يرفضون الاعتراف بانحيازه، لأنهم أصلا لا يملكون خياراً آخر… وربما لهذا كله عاد من واشنطن خائباً، مملوءاً بالمرارة. وكعادته في مثل هذه الحالات فإنه بدأ يلوح بالاستقالة، مفترضاً أن استقالته ستزعج الأميركيين والإسرائيليين وأهل النظام العربي معاً، والمنتفعين من السلطة… وهذا كله قد يأتيه ببعض العون للادعاء انه حقق ما يبرر استمراره في السلطة!
ثالثاًـ ان الاحتلال الإسرائيلي يشترط الحصول على تنازلات فلسطينية مؤثرة عما كان موضوعاً للتفاوض في جولات سابقة، وكذلك على ضمانات إضافية ليس فقط من الولايات المتحدة الأميركية، بل من أهل النظام العربي أساساً.
وهكذا يدخل الإسرائيلي كل جولة جديدة من التفاوض وقد عزز موقفه سلفاً بمزيد من التنازلات العربية، ومزيد من الضمانات الأميركية، بحيث يغدو خارق القوة في الموقع التفاوضي بينه وبين «السلطة» المستوحدة والناقصة الشرعية، ويستحيل معه ان يسمي الجلوس من حول طاولة واحدة «تفاوضاً» بأي معيار أو مقياس.. فكيف تفاوض سلطة مهشمة سياسياً، وعزلاء عسكرياً، وناقصة الشرعية قانونياً حتى لو حظيت برعاية بعض أهل النظام العربي المتكأكئين على أبواب الإدارة الاميركية يطلبون حلاً بأي ثمن «للمشكلة» المزمنة التي تستعصي على الموت بالنسيان، عدواً مدججاً بالتأييد العالمي (ومن ضمنه التأييد العربي) قبل الحديث عن انعدام أي نوع من التكافؤ سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعيا الخ.
ولقد تبدى فارق القوة حاسماً في الجولة الراهنة من «التفاوض بالإكراه» التي بدأت احتفالية في البيت الأبيض في واشنطن، وبرعاية عربية سامية تمثلت بالحضور الشخصي لرئيس أكبر دولة عربية ولملك دولة عربية أخرى أكثرية شعبها ممن شردهم الاحتلال الإسرائيلي من وطنهم الفلسطيني، فضلاً عن التأييد المعلن من أغنى الدول العربية وأوسعها نفوذاً مذهباً في العالم الإسلامي…
ففي هذه الجولة التي كان عنوانها الإقرار بيهودية دولة إسرائيل، كان على الراعي الأميركي أن يقدم لإسرائيل رزمة من الإغراءات تشمل تزويدها بترسانة كاملة من الأسلحة المتطورة، بينها عشرات من الطائرات المقاتلة الأحدث في العالم وكميات هائلة من الصواريخ البعيدة المدى العظيمة القدرة على التدمير، إضافة الى كميات خرافية من الأسلحة التقليدية… تحت القبة الفولاذية الاحتياطية التي يفترض أن تحميها من صواريخ المقاومة، أية مقاومة قائمة أو محتملة.
… وبالإضافة الى ذلك تعهد أميركي بضمان بقاء قوات الاحتلال الإسرائيلي في وادي الأردن.
وكل ذلك مقابل إرجاء البناء في المستوطنات الإسرائيلية لمدة شهرين!
على انه سرعان ما ثبت أن الحديث عن الإرجاء كان خدعة علنية بائسة لم يلبث أن تكشف كذبها على الأرض، فضلاً عن «الموقف التاريخي» الصريح الى حد الوقاحة الذي أعلنه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وزير خارجية إسرائيل والمعبر الفعلي عن المناخ السياسي السائد فيها، وخلاصته أن إسرائيل ستبقى دولة لليهود، وان حركة الاستيطان لن تتوقف وان على الفلسطينيين أن ينتظروا أجيالا قبل أن يسمح لهم بإقامة كيانهم السياسي، اذا ما بقيت له مساحة كافية من الأرض!
لقد اختلفت الأحجام، وبالتالي المعايير تماماً منذ إطلاق المبادرة العربية في مارس/ آذار 2002 واليوم:
كان أهل النظام العربي على خلاف في ما بينهم، ولكنهم استطاعوا التوافق، بصعوبة، على المبادرة التي سرعان ما تراجع صاحبها عن تهديده «بأنها لن تبقى فوق الطاولة الى الأبد» فأعلن تأييده لجولة المفاوضات البائسة الأخيرة في واشنطن والتي جرت تحت راية التعهد الاميركي المعلن بإسرائيل دولة يهود العالم… حيث لا مساحة لدولة أخرى باسم فلسطين!
اليوم صارت المبادرة العربية طموحاً مبالغاً فيه، تذكر ـ اذا ما ذكرت ـ وكأنها الحد الأقصى للمطالب العربية التي يتوجب النزول منها الى الحل الوسط الذي يمكن ان يكون مقبولاً من الإدارة الاميركية أساسا، لكي تدعو اليه أو تتبناه.
لقد أخذت إسرائيل من المبادرة العربية الاعتراف بما تراه من «حقوقها»، كالاعتراف بها والتسليم بمبدأ التعامل معها كدولة أساسية، بل ربما الدولة الأقوى في المنطقة، لا هي دخيلة عليه ولا عادية، يسلم أهل النظام العربي بنتائج احتلالها أراضيهم في فلسطين، ويحاولون مساومتها على بعضها… وقد لا يشمل هذا البعض القدس أولى القبلتين وثالث الحرمين، كما دلت المفاوضات الأخيرة في واشنطن.
كانت المعادلة في واشنطن واضحة تماماً:
÷ أمن أهل النظام العربي مقابل التنازل عن جوهر القضية الفلسطينية: أعطونا الأمان فنعطيكم مع أرض فلسطين الاعتراف بيهودية الدولة، ونتخلى عن كل ما يلزم أمن إسرائيل من أرض فلسطين، ومن ضوابط تحفظ أمنها من دول جوارها…
÷ نوفر لإسرائيل مقتضيات التوسع والأمن والاستقرار كدولة يهود العالم، مقابل بعض البعض من أرض فلسطين (بما لا يتسع لدولة أو حتى لدويلة في بطن دولة يهود العالم) مع التعهد بأن نفتح أمام إسرائيل الحدود والسدود فنسقط المقاطعة ونبادر الى الاعتراف بها في طبعتها الجديدة وبوصفها الممثل الشرعي والوحيد للمصالح الأميركية ومن ضمنها الأمن الاستراتيجي لمشروع الهيمنة على المنطقة العربية من أدناها الى أقصاها.
÷ لتسقط غزة في البحر. وليذهب لاجئو الشتات الى الجحيم. ولتتصرف إسرائيل بفلسطينيي 1948، ولتنل إسرائيل ما يرضيها ويطمئنها من الضمانات لأمنها وازدهارها من دول الجوار، وبالذات من الأردن، وليكن غور الأردن بوابة الأمن الإسرائيلي.
الصفقة على الضفة وسلطتها بوصفها «فلسطين» مقابل إسرائيل دولة يهود العالم… والسلطة جيب في داخل الدولة الإسرائيلية (كما الكنغارو).
لم يسأل أهل النظام العربي عن بقية فلسطين والفلسطينيين، وبطبيعة الحال فإن إسرائيل وجدت الفرصة للمساومة على الأرض المقتطعة للسلطة… وها هي تزرع المزيد من المستوطنات فيها، وتوطن مئات ألوف الإسرائيليين ممن تحميهم دولتهم القوية فيها وتغريهم بالتمدد، مما يستوجب طرد المزيد من أهلها منها… وليس من يعترض، لا السلطة ولا من يتبنى هذه السلطة.
في كل جولة جديدة من المفاوضات تتصاغر الأرض المخصصة نظرياً للسلطة، وتتمدد مساحة إسرائيل لتتسع ليهود العالم جميعاً.
لم تعد إسرائيل تطلب اعتراف النظام العربي بها، هي تعرف أن أهل هذا النظام العربي مستعدون لان يقدموا حرية أوطانهم وسيادة دولهم من أجل شراء رضاها وتأمينهم على عروشهم واستقرار أنظمتهم.
مع ذلك، فلا أهل النظام العربي سيحرّضون رئيس السلطة على الخروج من المفاوضات، ولا هم سيدفعونه في اتجاه مصالحة شعبه، بقواه المختلفة داخل الأرض المحتلة وخارجها.
ولا الإدارة الأميركية ستبدل موقفها، وتسعى الى مراضاة السلطة ومعها أهل النظام العربي لأنها تعرف أن لا خيار آخر أمامهم…
وغداً تأتي الفتوى من لجنة المبادرة العربية… ثم تتعزز بقرار مائع تتخذه القمة الطارئة ونعود الى مفاوضات نخسر فيها ما تبقى من أرض فلسطين ومن كرامة الأمة.
ما أبأس من أقفل على نفسه دائرة العجز… ان مصيره ان يختنق فيها!
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية