تزامن رحيل المناضل والكاتب الفلسطيني شفيق الحوت مع بلوغ أزمة التنظيمات الفلسطينية، سلطوية معارضة أو معارضة سلطوية، ذروة التفجر بما يهدد جوهر القضية التي كانت مقدسة، وكانت الإطار الجامع لكل العرب التي تقدمهم للعالم بصورتهم الأصلية: مدافعين عن حقوقهم في أرضهم، ومن أجل حقهم في غد أفضل.
ولعل كثيرين قد «حسدوا» شفيق الحوت على أنه قد غاب قبل أن ينطفئ ما تبقى من آمال عربية كانت معقودة على هذه القضية التي صارت مقدسة بفعل ما قدم أهلها ـ في فلسطين ومن حولها على امتداد الوطن العربي وبعض العالم الإسلامي ـ من تضحيات غاليات.
في البدء كانت فلسطين..
ومن حول فلسطين، ونتيجة للاجتياح الإسرائيلي لأرضها، في غمرة تواطؤ دولي شامل وغفلة عربية معززة بالتفتيت الذي كان ضرب المشرق العربي فجعله دولاً شتى لا تملك أي منها مبررات للوجود أو مقومات لاستمرار الكيانات الهشة، فضلاً عن أن أقطار المغرب كانت لا تزال تحت الاستعمار الغربي المباشر، صار للعرب «قضية مقدسة» تلخص طموحاتهم الى التحرر والى إعادة بناء دولهم على قاعدة روابطهم الأصلية (وحدة الأرض، وحدة الأصول، وحدة المصالح ووحدة الطموحات الى مستقبل أفضل).
كانت فلسطين أرضاً عربية لشعب عربي واحد، هذا إذا ما تناسينا حقائق الجغرافيا الطبيعية والجغرافيا الإنسانية التي كانت تجعلها «جنوب سوريا».
بعد إقامة إسرائيل، على أرض فلسطين، بالقوة العسكرية والتواطؤ الدولي والغفلة العربية، (اذا ما استذكرنا ما تواتر عن خيانات وعن صفقات مبادلة أرضها بعروش ودول لم يكن لها ذكر في التاريخ أو الجغرافيا أو حتى الشعر..)، كان على العرب أن يواجهوا ـ مجتمعين ـ تحدياً غير مسبو يتهددهم في حلم التوحد كما في كياناتهم التي اصطنعت على عجل في أعقاب الحرب العالمية الأولى، والتي بالكاد كان بعضها قد نال شيئاً من الاستقلال عن مستعمريه (الفرنسيين في لبنان وسوريا والبريطانيين في فلسطين وإمارة شرقي الأردن والعراق) عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية وغداة إقامة دولة إسرائيل بالقوة على بعض الأرض الفلسطينية المخضعة للانتداب البريطاني.
منذ تلك اللحظة في العام 1947، فرض على العرب أن يواجهوا تحدياً لم يكونوا مستعدين عملياً لمواجهته، خصوصاً أن شعوراً ممضاً بأنهم كانوا ضحية خديعة دولية قد لازمهم باستمرار، لا سميا أن خسارتهم فلسطين كانت تنذر بفرض التفتيت عليهم كسنة حياة!
ففي فلسطين وعبرها تم تفتيت الشعب، وتفتيت الأرض، وعبر اختلاف العرب وعجزهم تم تفتيت القضية، وتفتيت جمعهم.
صار الشعب الفلسطيني، وقد طرد نصفه من أرضه الى الأقطار المجاورة، أربعة أو خمسة «شعوب»: بعضها تحت الاحتلال الإسرائيلي مباشرة في الكيان الذي أقطع بالقوة بعض أرض فلسطين (1948)، وبعضه تم تهجيره الى لبنان، والبعض الآخر الى سوريا، أما القسم الأكبر فكان بقي في ما صار يعرف «بالضفة الغربية» لنهر الأردن الذي لن يتأخر التآمر الدولي عن ضمها الى إمارة شرقي الأردن لتغدو بعض المملكة الأردنية الهاشمية… هذا فضلاً عن الذين تشردوا فانتشروا في ديار الشتات. وكان من حظ بعض أقطار الخليج التي ستستولد لاحقاً أن أفادت من خبرات هذا الشعب الذي كان الأعظم نصيباً في العلم وشؤون الإدارة.
صار الفلسطينيون «شعباً كونياً» بل مجموعة شعوب كونية، خصوصاً أن أنظمة «الإخوة العرب» قد ضاقت ذرعاً بمجاميعهم، لا سيما بعد انتشار فكرة الكفاح المسلح لتحرير الأرض المحتلة، فاندفعوا يطلبون الهجرة الى أي مكان… وقد تم توفير تسهيلات استثنائية لقبول الآلاف منهم في كل دولة من دول شمالي أوروبا (الدنمارك، اسوج، نروج) فضلاً عن الولايات المتحدة الأميركية وكندا وبعض دول أفريقيا وأستراليا.
الفلسطيني الوحيد الذي بقي «فلسطينياً» هو من بقي في الداخل، وفرض عليه أن يصير إسرائيلي الجنسية (وحوالى المليون ونصف مليون من هؤلاء الفلسطينيين بجنسية إسرائيلية مفروضة مهددون اليوم بالطرد من أجل أن تتطهر إسرائيل لتكون دولة يهودية خالصة..).
[[[
بعد هزيمة 1967 تم تشطير فلسطين: باتت غزة قطاعاً محتلاً مفصولاً عن سائر الأرض الفلسطينية (الضفة الغربية) التي احتلتها القوات الإسرائيلية وأخذت تعد العدة لضمها الى كيانها بادعائها «الديني» أنها بعض أرض اليهود التوراتية (يهودا والسامرة).
أما بعد حرب أكتوبر ـ تشرين ـ 1973 بكل بطولات الجيشين المصري والسوري فيها، والتي مسخت تماماً في زيارة القدس، ثم استولدت منها ـ بطريقة قيصرية ـ معاهدة الصلح المصرية، فمعاهدة الصلح الأردنية، وقع العرب مرة أخرى، في محظور التشتت الى حد القطيعة والحروب السياسية المفتوحة.
ثم كان «اتفاق اوسلو» الذي ألغى ـ عملياً ـ الثورة الفلسطينية ومعها منظمة التحرير الفلسطينية ليستولد «السلطة» التي أدخلت الى بعض الضفة الغربية ومنحت قطاع غزة، المفصول بالقوة الإسرائيلية عن أهله في الضفة… وهكذا صارت «فلسطين الداخل» ثلاثة: بعضها تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر الذي يلغي هويتهم الفلسطينية، وبعضها في الضفة الغربية محذوفاً منها معظم ما يسميه الإسرائيليون «يهودا والسامرة»، ومحذوفاً منها أيضا ما استهلكه جدار الفصل العنصري الذي أقامه الإسرائيليون فقسموا «فلسطينيي الداخل» الى مجموعات معزولة عن بعضها البعض، في حين يوالي وحوش المستوطنين المستقدمين من شتى أنحاء العالم إقامة مستعمراتهم المسلحة على ما كان «ممنوحاً» للفلسطينيين من أرضهم.. الوطنية!
وصارت «غزة» جزيرة معزولة عن سائر فلسطين، إلا برابطة «السلطة» المخضعة للاحتلال الإسرائيلي.
في الضفة الغربية صار الفلسطينيون شعوباً: بعضهم خلف جدار الفصل العنصري، وبعضهم أمامه، وبعضهم عالقون بين المستعمرات الجديدة التي تقام بالقوة على ما تبقى من أرض لأصحاب الأرض… وبعضهم الثالث في القدس (الشرقية) مهدد باستمرار وجودهم فيها، إذ بعد أحاطتها بالمستعمرات التي احتلت التلال من حولها وبعض أرضها وبعض الطريق الى باقي مدن الضفة وبلداتها، باشر الإسرائيليون قضم أحيائها واحداً بعد الآخر، وآخر ما يتعرض الآن للقضم حي الشيخ جراح… إضافة الى هجماتهم المتكررة على حرم المسجد الأقصى بذريعة التفتيش عن هيكل سليمان. وسليمان للمناسبة هو عند الإسرائيليين ملك على قرية، أي ما يوازي «العمدة» وليس نبياً بعكس ما يعتبره المسلمون.
على هذا فمن القسوة غير المبررة على الفلسطينيين أن نتهمهم بالتخلي عن أرضهم التي ما زالوالا ـ حتى اليوم ـ يستشهدون فوق ترابها من أجل الحفاظ عليها، أو على ما أمكنهم ويمكنهم استخلاصه منها.
أما المحاسبة فتتوجب على النظام العربي الذي لا يفتأ يقدم التنازلات والمزيد من التنازلات لإسرائيل، من حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه، ومن مقتضيات السلامة والأمان لشعوبه (قبل العزة والكرامة والسيادة)، بما يهدد كياناتها ومستقبلها على أرضها «الوطنية».
[[[
لقد شجع النظام العربي منظمة التحرير الفلسطينية الى التحول الى حكومة لمشروع سلطة لا أرض لها.. وبالتالي فكلمة «دولة» تفيض عن واقعها لتغدو خديعة أو أكذوبة.
ثم إنه أبعد نفسه عن فلسطين، نفاقاً للإدارات الأميركية المتعاقبة، واسترضاء لإسرائيل ورد «شرورها» عن كياناته المتهالكة.
كذلك فإن هذا النظام العربي قد شجع، ورعى أحيانا، الخلافات التي تطورت الى انقسامات ثم الى «حروب» داخل الصف الفلسطيني، وكل ذلك بوهم حماية نفسه من خطر «العروبة».
وإذا ما انفصلت أو فصلت فلسطين عن العروبة توزع العرب أيدي سبأ، كما هو واقعهم، بل إنهم سيندفعون الى مواجهات قد تتطور الى حروب في ما بينهم لحساب إسرائيل والهيمنة الأميركية.
لقد كانت فلسطين، ولا تزال، العنوان المجسد للعروبة: من خرج منها خرج من العروبة وعليها.
فلما خرجت مصر من فلسطين طويت أعلام القضية، وتقزم دور مصر وأصيبت العروبة في صميمها.
والعرب كلهم حالياً في الشتات: أتم النظام العربي تفتيتهم الى قبائل وعشائر وطوائف ومذاهب وعناصر وأعراق مقتتلة، تحت رايات الاحتلال الإسرائيلي، كما في فلسطين ومن حولها، أو تحت رايات الاحتلال الأميركي كما في العراق وما ومن حوله.
لهذا كله، وغيره كثير، يمكن اعتبار شفيق الحوت شهيداً جديداً لفلسطين التي تزاحم أبناؤها ـ تحت تغطية عربية ـ إسرائيلية ـ دولية ـ على تفتيتها ليمكن بعد ذلك التسليم بهزيمة عربية شاملة قد يستغرق النهوض منها مستقبل أربعة أو خمسة من أجيالنا الآتية.
الفلسطينيون «شعوب» مشتتة، والعرب أمم شتى، وإسرائيل دولة يهود العالم، والمجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام… الإسرائيلي!
رحم الله الشهداء.. وآخرهم المناضل شفيق الحوت الذي قتله اليأس!
([) ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
مع الشروق ## النظام العربي والمسؤولية عن تفتيت فلسطين لمحة عن توزع «الشعوب الفلسطينية».. كونياً!
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان