يعيش العراق تحت الاحتلال الأميركي أقسى أيام محنته الوطنية وشعبه المقسم بالأمر يستدعى الى صناديق الاقتراع لينتخب نوابه لمرحلة ما بعد الاحتلال… بإشراف القوات الأميركية وتحت رعايتها المباشرة سياسياً وأمنياً وعسكرياً، وإن استخدمت الأجهزة الأمنية العراقية وأبقيت في الواجهة، حرصاً على شكليات «السيادة» وتوكيد الديموقراطية في العملية الانتخابية التي تكاد أن تكون جولة جديدة من جولات الحرب الأهلية المفتوحة في هذا البلد العربي العريق وعليه.
ولسوف يذهب الناخبون العراقيون الى صناديق الاقتراع يوم السبت المقبل، تتقدمهم مخاوفهم على أنفسهم كما على وحدة بلادهم وعلى كيانها السياسي، ليختاروا ممثلي مستقبلهم من أهل الماضي، يستوي في ذلك العائدون من «المنافي» المذهبة في الغرب (الأميركي خصوصاً مع محطة ضرورية في بريطانيا)، أو الراجعون على أقدامهم من مواقع اللجوء في المنافي القريبة والتي ترى في الانتخابات الفرصة لتوطيد أمنها بتزكية من تطمئن الى وعيهم بحقائق الجغرافيا والتاريخ التي تيسر إعادة بناء العراق الجديد بالتوافق مع جيرانه وليس بالتضاد معهم الى حد افتعال أسباب للحرب.
وتتزايد نبرة التحذير من «لبننة» العراق ارتفاعاً، مع تعاظم الإثارة والنفخ في الحساسيات الطائفية والمذهبية والعنصرية، عبر المزايدات المدفوعة الأجر التي تبثها بالتناوب محطات مملوكة لبعض دول الجوار الغنية، أو أنشأها بعض العائدين الى «الوطن» على ظهر الدبابات الأميركية، أو بعض الذين اندفعوا في الترويج لأنفسهم باعتماد لغة الماضي ولباسه وتقاليده العشائرية مدخلاً الى المستقبل الموعود.
الفوارق بين «اللبننة» و«العرقنة» تتصل بالكم لا بالنوع، وإن كان العراق أغنى بتنوع عناصره، عرقياً، ثم إن تاريخ الصراع فيه كان الأعظم دموية على الإطلاق.
فمع «اللبننة» يمكن وضع الديموقراطية في مواجهة الوحدة الوطنية لينتهي الأمر بحرمان البلاد من الوحدة الوطنية والديموقراطية في آن،
أما في العراق فتعني «اللبننة» إعادة هذا الشعب الغني بتاريخه الى بداية الخلق، خارج أي تاريخ معروف… فيمكن بالتالي إضفاء الطابع الطائفي على خلع الطغيان وكأنه انتقام «للشيعة» من سفاح «سني»، مع أن الطغيان لا دين له ولا مذهب.. أو من خلال تصوير الاحتلال الأميركي وكأنه جاء مدفوعاً بالحمية المذهبية لنصرة الشيعة على الدكتاتور السني، أو لنصرة المضطهد الكردي على الطاغية العربي الذي ينكر عليه حقوقه السياسية في وطنه الواحد.
ولقد استخدمت الأقليات، الدينية والعرقية والعنصرية، كوقود للهياج الطائفي، بما يضرب أسس الوحدة الوطنية ويمنع تجديدها. افتتح الاحتلال الأميركي مباراة بين القيادات السياسية: كل يأخذ بقدر ما يعطي الاحتلال، فهو من يوزع الحصص زعامات ورئاسات، نيابات ووزارات وإدارات وشركات مضمونة حصصها في المشاريع الجديدة لزيادة التدفق النفطي في العراق… ثم إن الاحتلال هو من يوزع الثروة الهائلة ويتيحها لنهب منظم وواسع، بعد أن يأخذ حصته، ثم يقاسم كل من يعطيه حصة، ويحمي السماسرة والنهابين.
[[[[[
الحملات الانتخابية تتركز في ذروة ضراوتها على من كانوا ينتمون الى حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي حكم صدام حسين تحت رايته العراق لخمس وثلاثين سنة، بعضها ـ أقل من عشر سنوات ـ بوصفه «السيد النائب»، أي نائب رئيس مجلس قيادة الثورة (أما الرئيس أحمد حسن البكر، وهو راعيه وحاميه ومن فتح له أبواب المجد، فكان جزاؤه أن سجنه صدام في قصره، ومنعه من ممارسة أي عمل، كما منعه من الاستقالة حتى استتب له الأمر تماماً، فعزله وتركه يموت مقهوراً، بعد اغتيال ابنه ومطاردة كل من كان يلوذ به، سواء أكان من عشيرته في تكريت وجوارها أم من رفاقه القدامى في الحزب أو في الجيش).
الشعار الرائج الآن، والذي حكم السياق الانتخابي ترشيحاً ودخولاً في اللوائح، هو «اجتثاث البعث»… وهو شعار رفعه المروجون للاحتلال كي يخلوا الساحة من كل من كان منتسباً الى حزب البعث، علماً بأن الانتساب كان هو باب الدخول الى الوظيفة عموماً. مدنية كانت أم عسكرية، وفي القطاع العام كما في القطاع الخاص. كانت بطاقة الحزب شرط حياة.
[[[[[
فعلياً، حكم صدام حسين العراق، بالسيف والسيف والسيف والدينار لمدة خمس وثلاثين سنة دموية حافلة بالحروب التي قادها ضد الغير، كما ضد الأهل. فقد اندفع، بتحريض أميركي واضح معزز، بتأييد سخي من دول النفط العربية الى محاربة إيران التي كانت الثورة الإسلامية قد أعادتها الى موقع «الحليف» الطبيعي للعرب… وكانت تلك الحرب هائلة الكلفة بشرياً (ذهب ضحيتها أكثر من مليوني قتيل فضلاً عن ملايين الجرحى) أما الخراب فكان عظيماً، خصوصاً أن الحرب امتدت لثماني سنوات طويلة.
ولما طالب صدام حسين حليفه الأميركي بالمكافأة أحاله الى إخوانه عرب النفط الذين أفادوا إفادة عظمى من تدمير إيران، فزادوا من إنتاجهم النفطي بمعدلات فلكية ليزيدوا دخولهم بذريعة تمويل الحرب… لكن هؤلاء، رأوا انه قد أتم واجبه، وأنهم قد دفعوا له سلفاً وكفى الله المؤمنين القتال. وقد رد صدام بغزو الكويت، مرتكبا الخطيئة التي ستجيء بالعالم كله لقتاله تحت الراية الأميركية.
قبل هذه الحروب وخلالها وبعدها كانت «حروب» صدام حسين في الداخل لا تتوقف: قاتل فقتل آلافاً مؤلفة من الشيعة في الجنوب، وقتل ألوفاً من السنة في الشرق والغرب وعند أي اشتباه بالولاء فقدم «وجبات» عديدة من الإعدامات لضباط وقيادات سياسية بعثية وغير بعثية، ومن أحزاب دينية أو سياسية لا فرق بين «السني» و«الشيعي» أو بين اليزيدي والصابئي والكلداني والاشوري.
وكان صدام حسين يحكم باسم حزب البعث… لذا كان شرطاً للحياة، قبل المعاش، أن ينتسب أي عراقي، وكل عراقي، وعراقية، الى حزب البعث وإلا اعتبر من الخوارج وطورد في رزقه بل وفي حياته.
[[[[[
أما الانتخابات، فهي منافسة محصورة بين الذين حظوا بالرعاية الأميركية، سواء كلاجئين سياسيين ذهبوا اليها كمحرضين على النظام ومطالبين بالتغيير ولو بتدمير العراق، وبين الذين عادوا من منافيهم يتقدمهم طموحهم الى السلطة في ظل المحتل، وهو قد سمح لهم بشيء من المزايدة كسباً للشعبية.
وقد انضم الى هؤلاء طابور من الانتهازيين الذين لا يمانعون في تبديل الراية والانقلاب على ولاءاتهم القديمة طلباً لموقع في السلطة الجديدة.
من كان بعثياً في ماضيه أعلن توبته، من دون أن يرف له جفن، وادعى معارضة الطغيان ولكن بصمت لأن الكلام مهلكة.
ومن صيّرته حاجته الى الراتب بعثياً التفت الى من أغواه فأخذه الى الحزب كوسيلة رزق فوجده يتقدم صفوف المطالبين «باجتثاث البعث»، فانصرف خائفاً من أن يشي به ليكتسب براءة من ماضيه المشين.
في الوقت ذاته كان الاحتلال الأميركي يتواصل مع القادة البعثيين من أركان نظام صدام حسين في مساومة مكشوفة: تكونون معي وتؤمنون لي استمرار النفوذ بعد انسحابي فأوفر لكم حصة في كعكة النظام الجديد… شرطي الوحيد أن تكونوا معي ضد إيران وسوريا.
أما طهران التي لها ثأرها الدموي على نظام صدام «البعثي» بصورة أو بأخرى ولو في شعاره الذي اتخذ بعداً عنصرياً وطائفياً في حربه عليها تحت عنوان «قادسية صدام»، فقد وجدت في هذا التكتيك الأميركي محاولة للتقرب من سوريا بشعارات حزبها على حسابها، فجهرت بعدائها واستعدادها للقتال ضد أية مشاركة بعثية في الحكم العتيد في العراق.
في حين أن دمشق التي اجتهدت ليبقى موقفها سياسياً من «المكونات السياسية» الجديدة في العراق لم تجد حرجاً في استضافة العديد من اللاجئين السياسيين المتعددي التوجهات. ومن بينهم بعض قيادات حزب البعث العراقي الذين لم يكونوا شركاء في القرار مع صدام حسين. (الذي لم يكن له شريك في أي يوم… وحادثة المفاجأة التي تلقاها رئيس أركان الجيش العراقي حين استدعاه صدام صباحاً ليعرف منه أن قوات الحرس الجمهوري قد أتمت احتلال الكويت.. من دون علمه شاهد على تفرده!!)… والحقيقة أن أكثر من مليون عراقي كانوا أعضاء في الحزب لأسباب تتصل بالرزق، خصوصاً أن الحزب، كمؤسسة، لم يكن طائفياً، بل إن أعداد المنتسبين اليه من الشيعة كانت تفوق أعداد السنة.
إن الاحتلال الأميركي يخيف العراقيين من حزب سياسي علماني (في الأصل) ليدفع بهم الى إنشاء «كيانات» طائفية صريحة تجعل الحرب الأهلية بينهم، على قاعدة طائفية حتمية.
ثم إن الاحتلال الأميركي يستغل شبح «البعثيين» لإلزام الطوائفيين بالتحالف تحت ظلاله الوارفة…
وحسنا فعل المرجع الشيعي السيد علي السيستاني بالامتناع عن استقبال أي مرشح، والتأكيد على دعواته شبه اليومية الى توطيد الوحدة الوطنية… وآخر من امتنع عن استقباله رئيس الحكومة نوري المالكي، الذي تتهم أجهزة إدارته بتزوير منظم للانتخابات عبر إضافة 800 ألف اسم وهمي الى قوائم المقترعين.
إن خمسة عشر مليون عراقي سيتوجهون السبت المقبل الى صناديق الاقتراع، وسط موجة من التهييج والهوس الطائفي والمذهبي والعنصري المؤهل لإنتاج عشر حروب أهلية. خصوصاً أن السفير زلماي خليل زاده، الذي كان لفترة المرشد «المسلم» للحاكم العسكري الأميركي للعراق، يواصل بث نصائحه الى الناخبين الذين تتولى نشر الفتنة في أوساطهم عشرات الفضائيات وإن ظلت أخطرها تلك التي تتمركز بالقرب من العراق وتتعامل مع الانتخابات كسوق إعلانية مجزية، حتى لو كان شعب العراق سيدفع «ديتها» من دمائه.
ملاحظة أخيرة: في معتقل كروبر الذي أنشأه الاحتلال الأميركي للمعتقلين أو المشبوهين سياسياً، أقام العقيد جولفان قائد الوحدة 89، قواطع تحجز المعتقلين السنة بعيداً عن متناول المحتجزين الشيعة، بذريعة منع اندلاع الخلافات.
إنهم يزرعون الفتنة حتى في السجن!
ولسوف تكون الانتخابات العراقية أغلى انتخابات في التاريخ، ليس فقط بدماء ضحاياها بل كذلك بمليارات الدولارات التي ستصرف على تزويرها، جهاراً وعلناً وأمام العالم أجمع.
وعسى ألا يصبح الاحتلال عند الشعوب العربية هو الطريق الأقصر الى الديموقراطية التي حرمهم النظام العربي من التعرف اليها.
([) ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية