طلال سلمان

مع الشروق البيان الرئاسي وخطيئة «الفرز»: هي حرب سياسية.. وليست حملة تكفير للشيعة! ([)

حسناً فعلت القاهرة، وبلسان المتحدث باسم رئاسة الجمهورية، حين أعادت توضيح موقفها من مسألة «الشبكة» المتهمة بالتآمر ضد مصر والتحضير للقيام بأعمال تخريبية و«نشر التشييع» في البلد، وتهريب السلاح الى المقاومة الفلسطينية في غزة.
لقد كان هذا التوضيح، بمصدره الرسمي المسؤول، ضرورياً جداً حتى تعود مسألة «الشبكة» الى إطارها الأمني ـ السياسي المحدد والمحدود، بعيداً عن «الحرب» التي خلطت، لمدة أسابيع، السياسي بالديني، والطائفي بالمذهبي، والقومي بالعنصري، حتى تاه الناس في غياهبها، ولم يعودوا يعرفون أساس الموضوع، ومن ثم كيف يخرجون منه ليتابعوا حياتهم العادية في أمان من الفتنة التي تم إيهامهم بأنها عند عتبة بيوتهم.
فالخلاف السياسي شرعي ومشروع، لا سيما في هذه الظروف التي يخيم فيها العجز عن القرار على المنطقة العربية قاطبة، فيتم الهرب الى نسبة هذا العجز الى تآمر الآخرين، أو الى القوة الأسطورية للأعداء، التي تفرض التسليم بأن يكون لهم حق القرار في ما يخص الكون وشؤونه جميعاً.. وبالتالي فلا داعي للمكابرة وادعاء استقلال القرار الوطني، اذ يفترض هذا التصور انتهاء عصر الوطنيات والقوميات جميعاً، ما عدا العنصرية الإسرائيلية القوية بسلاحها النووي والمعززة بالهيمنة الأميركية المطلقة التي لا تقاوم والتي ستدوم حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
كان التوضيح، بلسان المتحدث باسم رئاسة الجمهورية، ضرورياً جداً حتى يتوقف الخلط بين الخلافات السياسية، وهي مفهومة ومألوفة، والتمايز المذهبي بين المنتمين الى الدين الحنيف الواحد من السنّة والشيعة: «ليس لهذه المشكلة (الأمنية) علاقة بالانتماء الطائفي لمحازبي «حزب الله» ومناصريه كشيعة».
فالخلط بين السياسي والديني، بل المذهبي، في مثل الحالة التي نواجهها، يؤدي مباشرة الى الفتنة بين المسلمين، حيث ينتشر المؤمنون بالإسلام موحدين في الدين وان اختلفت مذاهبهم.
وإذا كان مفهوماً أن يتم مثل هذا الخلط، بالقصد المقصود غالباً وبالمصادفات نادراً، في لبنان الذي تتعدد فيه انتماءات أبنائه الدينية والمذهبية (في لبنان حوالى عشرين طائفة ومذهباً، معظمها تفرعات مسيحية، فضلاً عن أكثريتين إسلاميتين من السنة والشيعة، فضلاً عن الدروز والعلويين وبعض الاسماعليين)..
… فليس مقبولاً مثل هذا الخلط في مصر حيث المسلمون جميعاً من أهل السنّة، ولا طوائف أو مذاهب إسلامية أخرى.
من هنا القول إن مصر بتاريخها ودورها المؤثر ورصيدها الوازن أكبر من أن تكون طرفاً في لبنان الذي يسهل تحويل التنوع فيه من مصدر غنى الى سبب للانقسام حتى حدود الفتنة.
[[[
لقد نشأ اللبنانيون وفي وعيهم، كما في سجل الوقائع التي تحفل بها الفترات الحرجة من تاريخ الصراع السياسي المفتوح أبدا في وطنهم الصغير، أن تكون مصر الملاذ وصاحبة الدور المؤثر في حماية وحدتهم الوطنية.
وفي المحطات الفاصلة في تاريخ لبنان السياسي، بدءاً من إعلان استقلال الدولة التي استولدت ـ قيصرياً ـ في أعقاب الحرب العالمية الأولى، واستكملت ملامحها بعد الحرب العالمية الثانية، وبرعاية فرنسية مباشرة، وأسبغت عليها أوصافاً لا تليق بأي وطن طبيعي، وبالتالي أية دولة طبيعية ذات نظام ديموقراطي، كان لمصر دور مهم في تأمين «اعتراف هادئ» بهذا الكيان الجديد…
ثم انه كان لمصر، الملكية آنذاك، دور لا ينسى في تأمين انتساب الدولة اللبنانية الجديدة الى جامعة الدول العربية، التي أنشئت عشية استقلال كل من لبنان وسوريا، مع مراعاة خصوصياتها، وقبول تحفظاتها على أن تكون الجامعة إطارا لوحدة عتيدة بين دول «إسلامية» الدين بمجموعها مع فرادة للبنان ككيان يحفظ لمواطنيه المسيحيين موقع الرئاسة فيه كضمان.
كذلك فإن مصر (الجمهورية بعد تموز ـ يوليو 1952، التي شهدت أول «انقلاب» دستوري في لبنان أواخر صيف ذلك العام) قد تعاملت من موقع الحاضنة للاستقرار في هذا الوطن الصغير في مواجهة الانقسام السياسي الذي خرج الى السطح مراراً وتكراراً، وكان يهدد في كل مرة بالتحول الى شقاق طائفي كفيل بأن يغرق البلاد في حرب أهلية…
كانت مصر، الكبيرة بقلبها كما بقدرتها على التأثير، أكثر الدول العربية تفهماً ورعاية للشقيق الأصغر وحماية له من الخارج أحيانا، عربياً كان أم دولياً، والتأثيرات التي تهدد وحدته وكيانه السياسي.
لم تكن مصر في نظر مجموع اللبنانيين دولة عربية كبرى بأكثرية إسلامية غالبة قد تأخذها العاطفة الى الانحياز أو الميل في اتجاه مخالف لإرادة المسيحيين من أبناء هذا «البيت بمنازل كثيرة» كما أطلق المؤرخ المعروف كمال صليبا على لبنان.
وبطبيعة الحال فإن مسلمي لبنان لم يكونوا يستشعرون رعاية مصرية خاصة على حساب إخوانهم المسيحيين، والأهم: أنهم لم يكونوا في عواطفهم كما في توجهاتهم السياسية ليختلفوا في تقديرهم لمصر ودورها على قاعدة مذهبية… فلم يكن «الشيعة»، على سبيل المثال، يشعرون بأن مصر، وهي الدولة العربية الكبرى، سنية المذهب، تعاملهم وكأنهم أقلية مذهبية، أو تشكك في عروبتهم واستطراداً في إسلامهم، دون أن ينتقص انتماؤهم المذهبي من ولائهم الوطني، مثلهم في ذلك مثل إخوانهم في الدين الحنيف، أو شركائهم في الوطن الذي تشكل وحدته الضمانة لاستمرار كيانه.
ولأن في مصر، على ما يقول أهل الرأي، ديناً ولا تعصب،
ولأنها في تاريخها الإسلامي الطويل تكاد تبرأ من المذهبية…
… فلقد كان سهلاً أن يعتمد الأزهر الشريف المذهب الجعفري كمذهب خامس الى جانب الشافعي والحنفي والمالكي والحنبلي، وان يفتح أبوابه لطلاب العلم من الشيعة (ثم من الدروز) مكرساً صورة مصر التي تجمع ولا تفرق وتحمي ولا تبدد الخ..
لذلك استهول اللبنانيون عموماً والشيعة من المسلمين خصوصاً تلك الحملة الشرسة التي انطلقت في الآونة الأخيرة وعبرت عنها تصريحات بعض من رجال الدين وبعض منافقي السلطة وبعض الكتبة والمعلقين، والتي كادت تخرج أهل الشيعة من الإسلام، فضلاً عن إخراجهم من العروبة والتعامل معهم وكأنهم «جالية إيرانية» أو مرتدّون عن الدين الحنيف لهم «مصحف» غير القرآن الكريم، ولهم رسول غير النبي العربي محمد بن عبد الله، ولهم أركان لبدعتهم خارج الأركان الخمسة للإسلام!
وبرغم طغيان المنطق السياسي على هذه الافتراءات فهي قد أساءت الى علاقة المسلمين الشيعة في لبنان بمصر، وأشعرتهم بأن ثمة من يريد بمصر وبهم سوءاً… فمثل هذا الاتهام يسيء الى مصر وسمعتها ودورها ورحابة الدين بأكثر مما يسيء الى الشيعة في لبنان، وفي سائر الدول العربية، وهم بأكثريتهم الساحقة من العرب العاربة، سواء في لبنان أو في العراق أو في المملكة العربية السعودية أو في البحرين الخ…
ذلك أن وقائع التاريخ لا تلغيها حملات التجني، والإيمان الثابت لا يضعفه ولا تهزه التقولات والافتراءات.
[[[
لن ندخل في الأنساب ومن هو الأصفى عروبة في لبنان، وإلا لوجدنا الموارنة في الطليعة، بمعنى أنه ليس الانتماء الديني أو المذهبي هو الذي يحدد الهوية القومية، أي الانتساب الى الأرومة العربية،
لكن علينا أن نستذكر أن أهل الجنوب في لبنان، وبالأساس أهالي «جبل عامل» هم الذين عايشوا النكبة الفلسطينية في العام 1948، وهم الذين مشاعرهم فلسطينية، وأسباب حياتهم، في ذلك الحين ذات مصدر فلسطيني، فضلاً عن الارتباط العاطفي والتواصل الجغرافي الذي جعلهم ـ بالضرورة كما بالعاطفة ـ حاضنة طوابير الفلسطينيين الذين أخرجتهم المجازر الإسرائيلية من ديارهم، فهاموا على وجوههم، لا يجدون مأوى ولا معيناً ولا نصيراً إلا من هؤلاء الإخوة اللبنانيين المختلفين أحيانا في المذهب وأحيانا في الدين عنهم.
كذلك علينا أن نستذكر أن هؤلاء «العامليين» هم الذين تحملوا أعباء الضربات الإسرائيلية اليومية، ثم الاجتياحات العسكرية المتكررة على مدنهم وقراهم، بعدما أشرعوا أبوابهم أمام «الفدائيين» من رجال المقاومة الفلسطينية فاحتضنوهم وكانوا لهم الأدلاء في الذهاب الى «عملياتهم» الجهادية، والمضيفين الذين يؤوونهم ويتسترون عليهم، إن هم عادوا أحياء، متحملين الضريبة القاسية، في الدم والرزق للانتقام الإسرائيلي المدمر.
ثم إن أبناء الجنوب هؤلاء هم الذين استمروا مرابطين في مدنهم وقراهم حين دهمتهم الحرب الإسرائيلية في صيف العام 1982، والتي أخرجت المقاومة الفلسطينية من لبنان، بعد اجتياحها الجنوب كله وبعض الجبل والعاصمة بيروت «التي احترقت ولم ترفع الأعلام البيضاء».
لقد استمر الاحتلال الإسرائيلي لبعض الجنوب طوال الفترة من 1982 وحتى العام 2000، وتحت عنوان الرد عليه لإجلائه وتحرير الأرض (والإرادة) نشأت المقاومة في لبنان، وانطلقت من جبل عامل أساساً، وكانت في البداية تضم مقاتلين في تنظيمات عدة، لا نبالغ إن قلنا إنهم كانوا ينتمون الى معظم الطوائف في لبنان، وإن ظلت الأكثرية الساحقة من الشيعة، جنوباً وبقاعاً.
في هذا الجو بالتحديد نشأ «حزب الله» كتنظيم مقاوم.. وليس إلا بعد سنوات طويلة من الجهاد والاستشهاد حتى أكد حضوره ـ بدماء شهدائه ـ فتعاظمت شعبيته حتى غدا الحزب السياسي الأكبر والأخطر ربما في المنطقة العربية جميعاً.
لم يكن «حزب الله» جالية أجنبية أو حزباً وافداً.
صحيح أنه لقي دعماً مفتوحاً من سوريا وإيران الثورة الإسلامية.
وصحيح أن الدولتين قد أفادتا ـ سياسياً ومعنوياً ـ من إنجازات هذا الحزب المقاوم،
ولكن إدانة الشيعة حتى إخراجهم من الإسلام بذريعة أن فرداً أو أفرادا من «حزب الله» تصرفوا مندفعين بحماستهم فأقدموا على ما قد يراه البعض خطأ فظلم بيّن.
وكذلك فإن إنكار جهاد المقاومين من رجال «حزب الله»، الذي قدم أكثر من ألف وخمسمئة شهيد، من أجل تحرير لبنان وهزيمة العدو الإسرائيلي، ظلم فاضح..
بعد ذلك يمكننا مناقشة حجم الخطأ السياسي الذي ارتكبه «حزب الله» في مصر ومعها، وهل كان يستحق هذا الرد العاصف الى حد الجنون أم لا..
والأمل دائماً أن تكون مصر في موقع «الراعي» و«الضامن» بل «الأم» التي قد تطلق الدعاء لمعاقبة من أخطأ من أبنائها، لكنها ـ بالتأكيد ـ لا تقصد إيذاءهم بل ترشيدهم.
وهذا هو الأمل في مصر، اليوم، مرة أخرى.
([) ينشر بالتزامن مع جريدة الشروق المصرية

Exit mobile version