طلال سلمان

مع الشروق أين تبدأ حدود أمن مصر القومي؟

بين مصر والعرب خارجها، شيء من سوء التفاهم أو سوء الفهم حول نظرتهم إليها وتوقعاتهم لدورها الذي يفترضون أن لا غنى لهم عنه.
مصر تفــترض أنهم يطــالبونها بأن تنوب عنهم في دفع الغرم، ثم يعترضــون على أن تكون لها حصة اذا ما غنموا (وليـتهم يغــنمون!!). هم يرون أو يتصــرفون بمــنطق أن على مصر (الشقيقة الكبرى) أن تقدم التضحيات الغوالي وتخسر من قدرتها على تحقيق مطالب شعبها، وهي ثقــيلة وعـديدة، بل من حقها في التـقدم وبناء مستقبلها الأفضل… بينما هم ينصرفــون عن مســاندتها أو مساعدتها الى بناء بلادهم فــتزدهر وينعم أهلها بالرخاء، وتحتل »دولهم« المســتولدة جينياً أو المستحدثة على عجل ومن قلب ثورة النفط أو المصطنعة لها الأدوار على حساب من يملك الحق الشرعي والقدرات الفعلية على لعبها، في حين أن المصريين المنهكين بهمومهم الثقيلة يعيشون في حالة من العوز، كثيراً ما تضطرهم الى الهجرة لبيع عرق زنودهم والجباه وكفاءاتهم وشهاداتهم العالية بخبز يكفي العيال شر العوز.
أما العرب، بسطاء الناس في هذه الدنيا العربية الفسيحة الأرجاء، ممن نشأوا مشدودين بالعقل والقلب الى مصر، كقيادة شرعية للأمة، بوصفها الأكبر والأقدر والأعظم أهلية، باعتبارها »الدولة«، فيستغربون الصدود المصري، الذي يتبدى في بعض اللحظات تخلياً عن الدور، وتبرؤاً من العرب، بل يتجاوز هذا كله الى اتهام العرب بالتآمر على مصر وتقصّد إذلالها بتصويرها دائماً مقصرة، والمزايدة عليها، ورميها بتهمة التخلي عن قضية فلسطين وشعبها وتمكين إسرائيل من الاستفراد بأي مقاومة وكل مقاومة لاحتلالها أو بالصــمت الحــرام عن حروبها المتكررة بل المفتوحة على شعب فلسطين، وآخرها المقتلة التي ارتكبتها جهاراً نهاراً ضد المليون ونصف المليون من الرجال والنساء والأطفال والشيــوخ والمدارس والمساجد والمؤسسات والبـيوت الفقيرة في غزة، الشهر الماضي، (من دون أن ننسى حربها على لبنان بإنسانه وعمرانه في تموز ـ يوليو) 2006.
والحقيقة أن المواطن العربي (الطبيعي) لا يمكن أن يطلب لمصر إلا العزة وأسباب المنعة، فهي »دولته«، وهي معقد آماله، من أجل غد التحرر والخبز مع الكرامة.
وبمعزل عن الحســابات الخاصة لبعض الحكام والمسؤولين العرب، والتي اتخذت أو قد تتخذ منحى السعي لعزل مصر وإبعادها أو حتى التشهير بها لوراثة دورها القيادي،
وبمعزل عن الحساســية الفائــقة التي يتصرف بها بعض المسؤولين المصريين في مواجهة المطالبات العربية، لا سيما الشعبية منها، للقاهرة بأن تكون ما يتمــنون لها أن تكون..
بمعزل عن هذا كله فإن الكـثرة الكاثرة من العرب ينظرون الى مصر من خلال آمالهم وتمنياتهم، وأيضا من خلال احتياجهم اليها بوصفها »دولــتهم« جمــيعاً، و»المركز« والمصدر الشــرعي، مبدئياً، للقــرار العــربي، إلا حين تتخلى عنه بالاضـطرار، يأســاً أو عجزاً أو نتيجة ضغوط قوى دولية عاتية تساند إسرائيل وتدعمها في سعــيها لتهميش دور مصر أو إلغــائه في ســياق حربها المفتوحة على الحاضر العربي كما على المـستقبل العربي، والتي لم تتوقــف يوماً ولن تتـوقف يوماً.
ذلك أن العرب، خــارج مصر، يعرفون أن »دولهم« الضعيفة تكويناً أو المستضعفة بطبيعة السلطة فيها، لا تستطــيع أو هي لا ترغب بالقيام بالمهام أو الواجبات »القومية«.
حتى من »ينتقد« السياسة المصرية أو »يعارضها« فإنه إنما يفــترض أن ذلك من حقوقه، باعتبار انه يتطلع الى القاهرة على أنها العاصمة الوحيدة المؤهلة ـ مبدئياً ـ للقيادة، برسوخ الدولة فيها، بينما معظم »الدول« العربية الأخرى وليدة المصادفات أو المطامع الاستعمارية التي رسمت الحدود في معظم الأقطار وبين بعضها بعضاً، وأقامت الممالك والجمهوريات والسلطنات والإمارات، لتفتيت الجسم العربي والآمال في دولة قوية واحدة موحدة قادرة ومقتدرة… وربما تمهيداً لقيام الكيان الإسرائيلي فوق أرض فلسطين، اذا ما استذكرنا وعد بلفور ثم ما لحق به أو اتصل به من ترتيبات وتقسيم المقسم من أرض المشرق العربي في ما يلي حدود مصر، ما بعد سيناء… أي بدءًا من غزة هاشم بالذات..
أرجو أن يسمح لي هنا باستذكار حوار قديم لكن دلالاته قاطعة وثابتة لا تتحول ولا تتبدل مع اختلاف العهود والحكومات والأزمان:
كنت، كغيري من الصحافيين العرب، كثير التردد على القاهرة، في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، بوصفها مركز الحدث العربي بأبعاده الدولية وانعكاساته على مجمل الإقليم.
وكانت المؤسسات الصــحافية مقصـدنا، حيث نشأت لنا صداقــات طــالما كــانت مصدر اعتزازنا مع كبار الزملاء والكتّاب والمفكرين والأدباء الذين كانوا يعملون لها أو يكتبون فيها.
.. وكان الدور السادس من مبنى جريدة »الأهرام« مقر »الخالدين« كما كنا نسميهم تحبباً، وبينهم الراحلون الكبار الذين أغنوا وجداننا بثقافتهم وأفكارهـم وإبداعــاتهم الأدبية: توفيق الحكيم، لويس عوض، نجيب محفوظ، صلاح عبد الصبور والحسين فوزي وغيرهم..
أتذكر بالتفصيل، حتى اليوم، وقائع جلسة نقاش بدا هادئاً ثم تحول الى صاخب بين ثلاثة من الكبار، في حضوري، وانطلاقاً من مطالبتي بدور مصري فاعل ولا غنى عنه في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وكنا ـ يومها ـ عند حافة واحدة من مراحل تطوره الخطيرة.
قال توفيق الحكيــم ما مفـاده: في رأيي أن مصر يجب أن تتخــلى عــن كل ما لا يخــصها أو يمسها مبـاشرة، وتنصــرف الى بنــاء نفسها، وبالتالي فعليها أن تتوجه الى الغرب وليس الى العرب، فالغرب يعـطيها ويفيدها بينما العرب، لا مؤاخـذة، يغرقــونها في مشاكلهم ويشدونها باستمرار الى الخلف… ليس عن سوء نية، ربما، ولكنهم هم، واقعياً في الخلف..
عندما حاولت التدخل قطع عليّ الطريق الحسين فوزي الذي أمتعنا بكــتاباته عن رحلاته المثقــفة عبر العــالم وهو يـقـول محتداً: نحن ما لنا ومال العرب، إنهم متخـــلفون، ثم إننا مخــتلفون عنهم في الموقــع وفي المصلحة.. نحن في أفريقيا، حيث من حقنا القيــادة، وهم في آســيا. ونحـن واجهة أفريقيا على البحر الأبيض المـتوسط حــيث التــقدم العــلمي والــثورة الفكرية. ولنا تجربة ناجحة في حقبة محمد علي، فلنتبعها، ولتكن أبصارنا وأفكـارنا مشـدودة دائماً الى الأمام، الى التقدم… والتـقدم في الغرب!
قبل أن أهمّ بالتدخل فوجئت بلويس عوض يرفع صوته ويقول بنبرة صعيدية مميزة: اسمع يا حسين، واسمع أنت يا توفيق.. ما تقولانه »كلام فاضي«. أنتما تتحدثان عن مصر، وعن حماية مصر، وعن سلامة مصر. ويعرف الجميع أنني لست قومياً عربياً، ولست شديد الإعجاب بتجربة عبد الناصر ومغامراته التي شده اليها العرب بوهم الوحدة.. يمكن أن يقال عني، أو أقول عن نفسي إنني مصري خالص، وإذا شئتم، فأنا فرعوني… مع ذلك فإنني أعرف يقيناً، وعلى استعداد لأن أدافع بكل قدراتي عن هذا اليقين: ان الدفاع عن أمن مصـر القومــي يبدأ من عند جبال طوروس (على حدود تركيا). أفريقيا إيه، وأوروبا ايه!! كي تسلم مصر فلا بد أن تحمي حدودها… وابتداء من جبال طوروس.. هكذا تعلمنا تجارب التاريخ، وهذا ما تفرضه علينا الجغرافيا. أما حكاية العرب والعروبة فأمر آخر لا شأن لي به!
[[[
إننا ـ نحن العرب ـ لا نطلب من مصر إلا أن تكون ذاتها،
إننا لا نريد لمصر إلا المنعة والرفعة والعزة،
إن ضعف مصر كارثة على العرب في مختلف أقطارهم، القريبة منها والبعيدة.
ولعل العرب، الناس، يبالغون في مطالبتهم مصر بالكثير مما هو خارج قدراتها، لكنهم يفترضون ـ بحبهم وحسن ظنهم ـ أنها إن أرادت قدرت..
»إن لله رجالاً إذا أرادوا أراد«.
([) ينشر مع جريدة »الشروق« في القاهرة

Exit mobile version