هي فلسطين كما تعوّد عليها العرب عبر التاريخ. تريدها الصهيونية أن تكون إسرائيل؛ يصنعونها كذلك. وقد نجحوا في أن تكون لهم السيادة على كامل أرضها، مهما كانت تسمية البعض لها، سواء كانت إسرائيل أو السلطة الفلسطينية وما إنشق عنها.
الدولة عادة هي من يحكم الأرض وتكون له السيادة عليها. عندما اغتصبت فلسطين، كان لإسرائيل السيادة عليها، وما زال الأمر كذلك. اتفاق أوسلو وحلّ الدولتين وهم. قتل الصهاينة الجنرال الذي أمهره توقيعه، علماً بأنه كان ممن أسّسوا دولة إسرائيل، وشاركوا في كل المعارك اللاحقة، ولم يكن معتدلاً. أراد حلاً يكون تسوية لما استعصى على القوة التي تدعمها الولايات المتحدة والغرب بالسلاح، والمال، والمعنويات، وايديولوجيا الكذب والاستغلال التي اشتهر بها الصهاينة. لم تكترث اسرائيل يوماً لما يسمى القانون الدولي أو قرارات الأمم المتحدة أو مقتضيات حقوق الإنسان. اعتبرت الواقع ما تصنعه القوة وهذه تزوّدها بها الولايات المتحدة وانحياز الغرب عامة.
برغم إنشاء السلطة الفلسطينية (لم تكن أبداً دولة لأنها لم تكن ذات سيادة)، مضى الصهاينة في قضم الأرض، وتزايدت مستعمراتهم ضمن أراضيها، ولم يتراجعوا أبداً عن السعي لأن تكون فلسطين كلها لهم، وأن تكون السيادة لدولتهم، وأن تكون هذه يهودية، مستخدمين من أجل ذلك مختلف وسائل القهر والتهجير والإبادة الجماعية، لتتحوّل فلسطين الى أرض دون شعبها، ليحل مكانه دون مسوّغ قانوني أو إنساني شعب الصهاينة. وأرادوا أن يُشكّلوا من الصهاينة شعباً يملكه الجيش الذي يُبيد الشعب الفلسطيني.
مع ذلك تعلّق معظمهم بأوهامهم واستمروا في المطالبة بحل الدولتين؛ حتى الذين أضمروا تحرير فلسطين من الصهيونية، ما رفعوا إلا شعار التحرير دون إسباغ صفة عليه. لكن المقاومات نشأت واحدة تلو الأخرى منذ 1948، وكانت على العموم شعبية الطابع، إذ أنه ما تدخلت دولة أو دول عربية إلا مُنيت بالهزيمة، وحظيت دولة إسرائيل بالدعم الغربي الكامل، حتى الجسور الجوية في حالة الحرب لتزويدها بالسلاح، الى أن صارت هذه مخزناً للسلاح والذخيرة الأميركية؛ وخلال ذلك زوّدتها فرنسا بالمفاعل النووي وصارت لها ترسانة من السلاح الذري.
مع الزمن افترقت طريق الأنظمة العربية عن شعوبها فيما يخص القضية. فجرى صلح مصر مع دولة الصهاينة في اتفاق كامب دايفيد (1979)، ثم اتفاق “وادي عربة” مع الأردن (1994)، ثم بعد عقود، تم تكريس التطبيع وتبادل السفراء بين دول عربية أخرى وإسرائيل. طبعاً كانت الأنظمة حريصة على إعلان دعمها لحقوق فلسطين. واستمر التعبير عن ذلك!
وبينما كانت الأنظمة تُعلن تمسكها بالحقوق، كانت إسرائيل تمضي في قضم الأرض والتهجير والإبادة. والمقاومات المتتالية لم تكن أقل إبهاماً. واستمرت في عمليات لم تؤد الى أكثر من خدش إسرائيل. حتى عملية “طوفان الأقصى” التي كانت، وما تزال، “مؤلمة” لإسرائيل دولة “وشعباً”، لكن الأثر على غزة كان عملية إسرائيلية معلنة الأهداف، هذه المرة، تهجيراً وإبادةً.
ما غاب لدى العرب والفلسطينيين، والمقاومات المتتالية، هو الواقع بأن من يحكم فلسطين هو دولة واحدة وأن المواجهة ضدها بقيت “صراعا” (من الخارج) لقوم ضد قوم، لا نضالاً ذا طابع داخلي. وأن نموذج التحرير في الوعي السائد هو فيتنام، ضد الاحتلال الآتي من الخارج، لا النموذج الجنوب إفريقي ضد نظام الأبارتايد، أي التمييز العنصري وما يرافقه من قمع وعنف وإذلال.
لماذا بقي العربي على العموم متمترساً في إطار حروب التحرر الوطني، ولم يتجاوزه إلى النضال الإجتماعي؟ ولماذا غاب عن الوعي أن حروب التحرر الوطني تلاها ولادة أنظمة استبداد؟ ولماذا ما أدركنا أن الحرية شيء والتحرر الوطني شيء آخر؟ تحرر قُطر، أيُّ قُطر، من الكولونيالية (الخارجية) لا يحمل بالضرورة معه الحرية في الداخل بعد الاستقلال.
تتزايد الأسئلة، خاصة في ما يتعلّق بفلسطين، وفيها جماعة صهيونية تتحكم بشعب، مهما فعلت دولة العدو الإسرائيلي، فإن الديموغرافيا ستتغلب عليه، إلا بمحو الشعب الفلسطيني من الوجود، وحرب إبادة يصير احتمالها عبئاً عليه في نظر العالم كله. تقول الدراسات الإحصائية إن اليهود ليسوا أكثر عدداً من العرب الفلسطينيين في هذه الدولة الواحدة، ولن يصيروا إلى ذلك أبداً. فلماذا الإصرار على أنه “صراع” قوم ضد قوم وحسب؟ ولماذا عدم الاكتراث إلى كونه نضالاً إجتماعياً؟
يسيطر علينا الوعي بالأمة أكثر ما يعنينا شأن الدولة؛ الوعي بأننا أمة، سواء إسلامية أم عربية، وكل من لا ينتمي إليها هو دخيل أجنبي خارجي. حتى في الأقطار العربية التي يحكمها العرب، لا تمييز بين الدولة والأمة إلاّ أن الأولى عابرة مؤقتة، وأن الثانية كيان أبدي؛ وهو موجود ولو كان ميتافيزيقياً أو لم يتحقق؛ بالأحرى لا اعتبار للدولة إلا بكونها طريق عبور إلى الأمة.
في الوعي السائد، القومي والديني، لا مكان للصراع الطبقي، وإن كثر الفقراء. والدين يحض على مساعدة الفقراء والإحسان إليهم. هناك الداخل والخارج وحسب، وهما في صراع دائم، وإن كان الفقهاء قديماً فُطروا في إمكان السلام بينهما على أساس المهادنة والموادعة. من الطبيعي أن تكون إسرائيل دار حرب. فهي مغتصبة لأرض عربية فلسطينية. وهي لا تريد إلا أن تكون دار حرب على العرب والمسلمين. وما تنبّه دعاة الإسلام السياسي أن اتفاقات أوسلو وكامب دايفيد وغيرهما لا تنطبق عليهما المفاهيم القديمة حول أبدية التناقض بين الدارين وإن تهادنا. لذلك استحال في الوعي أن يكون الصراع إلا خارجياً مع دولة كولونيالية لا نضالاً داخلياً (في إطار الدولة الواحدة الموجودة). انتصر النموذج الفيتنامي على الجنوب إفريقي. وصارت الأولوية للجهاد الميليشيوي على الجهاد الداخلي في إطار الدولة الواحدة التي هي الحقيقة المُتحققة. وكان وهم حل الدولتين مرحباً به. ولم تكن الأنظمة إلا كثيرة الحبور إذ أزيح عن كاهلها عبء الصراع ضد إسرائيل، وصار كله واقعاً على كاهل التنظيمات الشعبية (المقاومات). وهذه، بدورها، لم تدرك أن الهدف لأي حركة شعبية هو الوصول الى سلطة الدولة، أو بناءها، لا العكس. الدولة مرحلة عليا ينتظم فيها المجتمع ويمنح السيادة للدولة.
المهم أن المواجهة أصبحت غير متناظرة. فهي ليست حرب دولة ضد دولة، بل دولة ضد ميليشيات مقاومة، وهذه، بدورها، وقعت في تناقض بين اعتبارين لمن يحق له اتخاذ قرار الحرب الذي لا تتخذه إلا الدول، سواء كان الأمر هجومياً أو دفاعياً. الميليشيات المقاومة دورها رد فعل ضد هجوم ما يتمثّل عادة في الاحتلال. هو كالتناظر بين الإيجابي والسلبي، بين المبادرة وردة الفعل، بين الدولة واللادولة.
يستحيل على لا دولة فلسطين أن تهزم الدولة القائمة والموجودة بالفعل، والتي تحكم فلسطين، وهي دولة الصهاينة، إلا بأن تحل مكانها والنضال ضدها كدولة يهودية عنصرية استبدادية، تعتمد الأبارتايد والفصل والتمييز العنصريين. وهذا معناه ليس التحرير من احتلال خارجي بل انتصار على عدو داخلي. فهي ليست حرب بين دارين، دار السلم ودار الحرب. هي حرب ضمن دار واحدة وتحويلها من دار حرب الى دار سلم بعد تغيير هويتها اليهودية، ونزع العنصرية عنها، وإزالة الأبارتايد منها؛ وذلك كله من اعتبار أن ما يحكم فلسطين الآن هو دولة واحدة تريد إبادة شعبها، وتسعى لذلك، وتشن عليه الحرب من أجل ذلك. إن عدم التناظر قائم في أساس إسرائيل التي لا تعتبر دولتها الحالية أن وجودها غير متلائم مع وجود الشعب الفلسطيني. إزالة عدم التناظر يكون بإزالة الدولة الصهيونية من أجل قيام دولة فلسطين (لا مجرد سلطة)، التي تتنافى تعدديتها مع وجود يهود بين سكانها، بل التعددية هي ما يتطلّب وجود إثنيات وأديان ومذاهب مختلفة. النضال ضد الدولة الصهيونية حتى الموت، موتها، واجب كما كان النضال ضد دولة الأبارتايد واجباً حتى الموت، بانتظار من يشبه نيلسون مانديلا.
المجتمعات العربية، ومنذ الخلافة الأولى، حكمتها أنظمة استبدادية، لكنها لم تكن عنصرية في أي من أيامها والسلالات المتعاقبة عليها. إدخال العنصرية على الأرض العربية ليس له إلا عنوان واحد هو دولة إسرائيل، التي تحسب أنها يمكن أن تتماثل مع الدول التي اكتشفت القارة الأميركية، ثم ناقشت هل السكان الأصليون (سموهم هنوداً) بشراً أم حيوانات! وقد عبّر عن ذلك قادة إسرائيل عندما قالوا إنهم يواجهون حيوانات متوحشة، ولم يتعلموا الدرس من بارتولوميو دي لاسكاز. وليس صدفة أن الدولة التي قدمت دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية هي جنوب أفريقيا. إذ هي تدرك بالتجربة معنى الأبارتايد لدى إسرائيل.
المصطلحات رموز تشير الى المرموز إليه، سواء كان واقعياً متحققاً أو وهمياً؛ كما يقال في الأنثروبولوجيا؛ وهي في هذه الحالة الشعارات السياسية التي يرفعها ويطالب بها أطراف كل صراع أو نضال. ومن يُحدّد مصطلحاته يكون كمن يحدد أهدافه. وهذا أقوى من الذين يعتري مصطلحاتهم التشويش، وأحياناً التناقض.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق