أسعدني حظي، خلال مرحلة معينة من تاريخ عملي في المجلات والصحف، قبل”السفير”، على تجاوز السياسة والسياسيين إلى أهل الفكر والثقافة من الروائيين البارزين مثل نجيب محفوظ والمبدعين من كتاّب المسرحية مثل توفيق الحكيم، والمفكرين السياسيين أصحاب الموقف الشجاع مثل لويس عوض، وغيرهم كثير.
كان مما يسهل اللقاء والحوار المفتوح أن “الأستاذ”، وأعني محمد حسنين هيكل، تقصد إكرام المبدعين الثلاثة فاقطعهم نصف “طابق الخالدين” في الدور السادس من مبنى جريدة “الأهرام” الأنيق بهندسته، مدخلاً ومكاتب وقاعات للتحرير وصالات فخمة التجهيز للندوات التي طالما استضافت مفكرين كباراً متعددي الجنسية.
وكنت، في كل زيارة للقاهرة، أقصد إلى هذا الطابق السادس للقاء مميز مع الثلاثي متعدد المواقف: فتوفيق الحكيم “مصري طبيعي” لا يعرف الكثير عن “العرب” وان كان يعرف فرنسا بكتّابها الكبار ومؤلفاتهم المميزة، رواية ومسرحاً وقصة ونقداً، أما الحسين فوزي فمتوسطي النزعة يجهل كل شيء عن العرب، شعوباً وبلاداً، سواء في المشرق أم في المغرب، وتشغله أوروبا بثقافتها وفنونها، يجول بين اسبانيا وايطاليا وفرنسا وبريطانيا ويظهر إعجابه بالتفوق الأميركي وان ظل يعتبره ” أقل من حضارة”.
وأما لويس عوض الصعيدي، فمثقف خطير، يعرف أكثر مما يجب عن حضارات العالم، وان ظلت ماركسيته هي المرجعية في أحكامه ومواقفه التي كلفته تردداً على المعتقلات قبل أن تتم المصالحة بين نظام جمال عبد الناصر والاتحاد السوفياتي ويخرج الشيوعيون من المعتقلات إلى صدارة المشهد الثقافي في مصر، على وجه التحديد.
كانت جلسات النقاش غنية بمواقف الاختلاف فيها.. وكان موضوع النقاش الدائم، معي، العروبة، بعنوان فلسطين والواجب القومي بدحر إسرائيل وإنهاء أسطورة تفوقها على مجموع العرب بالقيادة المصرية… وكان الحسين فوزي، يرفض هذه “البديهية” ويرى أن على مصر أن تتطلع إلى النموذج الأوروبي في بناء الدولة – الأمة و “يكفيها ما نالها من خراب وإنفاق يفوق الطاقة على قضايا لا علاقة لها بتقدم شعبها إلى حيث يستحق”.
أما توفيق الحكيم فكان يوافقه الرأي ثم يستدرك أن لا بد من تحرير الأرض المصرية المحتلة (وكانت يومذاك تشمل شبه جزيرة سيناء بمجملها حتى شرم الشيخ وجزيرتي تيران وصنافير..).. بالمقابل كان لويس عوض ينسى ماركسيته وهو يحاول “شرح” حول أسباب هزيمة 1967 مقارنة بنتائج المواجهات (المحدودة) بين الجيش المصري والقوات الإسرائيلية، فيصيح غاضـباً: “تعرف سيادتك لماذا استسلم الضباط أو هربوا من القتال في حرب حزيران؟! لقد هربوا وسلموا سلاحهم لأنهم أولاد بوابين، في حين أنهم كانوا سنة 1948 أولاد ناس، فيهم أبناء باشوات وبكوات يخجلون من الاستسلام والعودة مكسورين فيفقدون مكانتهم بين أهلهم وسائر الناس..”
لم تنقص هذه المناقشات السياسية من تقديري العظيم لهؤلاء الثلاثة من كبار المفكرين في مصر… ولطالما هومت مع توفيق الحكيم في مسرحياته الأخيرة التي اندفع فيها إلى مجاراة “اللامعقول” والمسرح الذهني، أما الحسين فوزي فقد أمتعني أدب الرحلات الذي عرفني إلى ما لا يعرفه غيره من إبداعات الفنون رسماً ونحتاً، والآداب، مسرحية ورواية ودواوين شعر، في أوروبا التي عرفها أكثر مما عرفها أي رحالة وباحث في مجالات الإبداع.
كذلك فقد ثقفتني كتابات لويس عوض العميقة، والتي جمع فيها بين ماركسيته الغنية وزهوه بالحضارة الفرعونية وانفتاحه على التجربة الناصرية ومواكبتها فكرياً، ولو من موقع المختلف حتى الذهاب إلى المعتقل تمسكا بأفكاره.
ولقد استطاع هيكل أن يبني جزيرة ثقافية مشعة في قلب “الأهرام” جمع فيها بين المختلفين عقائدياً وسياسياً، تاركاً لكل منهم الهامش المريح في التفكير والقول الذي جعل من تلك الصحيفة الرائدة في عهده “جزيرة ذات استقلال ذاتي”، يكتب كل منهم فيها ما يشاء متخففا من عبء المسؤولية عما يقول، مستنداً إلى “الأستاذ” الذي نهض بهذه الصحيفة العريقة إلى المستوى الدولي فصارت مرجعاً ليس في السياسة فحسب بل في الثقافة عموماً، والصحافة خصوصاً ومنصة لقراءة أفكار جمال عبد الناصر وخططه لمصر ومنطقتها، بل منارة فكرية وثقافية تنشر من الأفكار والرؤى المستقبلية مثل ما تنشر في السياسة، محلية وعربية ودولية وأكثر.