لم تكن مصادفة أن «يؤجل»، كلوفيس مقصود رحيله، في مغتربه الاختياري الجامعي في واشنطن، بعيداً عن لبنان بأثقال الخيبة فيه، أياماً، حتى تجيء متزامنة مع الذكرى المئوية لمعاهدة سايكس ـ بيكو التي قسمت بلادنا بالفتنة تمهيداً للمشروع الإسرائيلي في فلسطين، فاتحاً أمام العرب باب «النكبة» التي تكاد الآن تتكامل فصولاً.
لقد اختار موعد رحيله كتظاهرة احتجاج على القصور العربي، بل التقصير، بل ما هو أفظع..
أما المصادفة فأن يصحبه ـ بقرار أيضاً ـ في هذه الرحلة الأخيرة القانوني العربي المميز الدكتور محمد المجذوب (راجع ص 7)، الذي كان علماً من أعلام النضال القومي مسخراً علمه الغزير لخدمة قضايا أمته، وما أكثرها وأخطرها.
لقد اختار هذان الكبيران موعد المغادرة بدقة: بعد عيد الشهداء الذين أعدمهم الاحتلال التركي في بيروت فأعطوا ساحتها ـ القلب اسمها وعشية احتفال الكيان الصهيوني بالذكرى الثامنة والستين لإقامته بالقوة الأممية (والخيانة، عربياً) فوق أرض فلسطين.
ولقد رحل كلوفيس مقصود وحيداً في بلاد الغربة التي نفى نفسه إليها بقرار واعٍ، وإن ظل يمر بنا بين الحين والآخر، متفقداً، أو يتصل هاتفياً وبشكل دوري حتى يعزز شعوره بالانتماء، خوفاً من أن تضعفه الغربة.
وكنا عرفنا «البيت» الذي أعطانا هذا الشاب بقيافة العجوز، متواضعاً، منطوياً على نفسه، يتظاهر بأنه ضعيف النظر في حين أنه يقرأ النيات، وأنه ضعيف السمع مع أنه يلتقط هسيس أوراق الشجر الذي يظلل الطريق من الشويفات إلى أوكلاهوما، حيث وُلد غريباً، وفي المسافة بينهما.
ولقد التقينا في زمن النهوض الوطني والقومي كلوفيس مقصود، تظللنا أطياف الوالدة ماري التي أكدت له عروبته والخال جورج حنا الذي علّمه المشي يساراً، فيما وصفه الوالد فريد مقصود بأنه «صبي بشع.. بس مهيوب».
في أي حال، يمكننا أن نعتبر كلوفيس مقصود «أخطر رجل في العالم» لعظيم ما تختزنه ذاكرته ولا تنساه من معلومات عن الدول في القارات الخمس وعن الزعماء السياسيين والقادة الكبار من جمال عبد الناصر إلى جوزيب بروز تيتو ثم إلى جواهر لال نهرو وسائر أفراد هذه العائلة المجيدة بتاريخها المأساوي.. هذا فضلاً عن رجال الدولة ونساء الدولة، والمؤرخين والبحاثة، والأحزاب السياسية وقادتها في الشرق والغرب، عن الجامعات وكبار الأساتذة، ثم عن المنظمات الإقليمية والدولية بدءاً بالجامعة العربية بمقرها الدائم في القاهرة وصولاً إلى سفارتها في الأمم المتحدة في نيويورك، وانتهاءً بالمنظمة الدولية وكل ما انبثق عنها من وكالات تحمل أسماء معقدة لمهمات لم تُنجز.
وعندما تفجرت الثورة الفلسطينية، في أوائل الستينيات، سيلتقي مقصود الزعيم الراحل ياسر عرفات في العام 1967 لصداقة ستتوطد في العام 1969 وتدوم حتى آخر أيام أبو عمار.
& & &
مع السعي لاستكمال وعينا، كانت الحيرة تتملكنا ونحن نحاول التوفيق بين القومية والاشتراكية، خصوصاً وأن الجيل الذي أخذنا عنه الفكر القومي كان أقرب إلى نمط الحياة الغربية وقيم أو مفاهيم المجتمع السياسية الغربية… بينما كانت البيئة الدينية ترى فيها اعتراضاً على العزة الإلهية، وإعادة غير مغفورة لترتيب الناس على الدرجات.
ولقد قدم كلوفيس مقصود، بشخصه كما بكتاباته ومناقشاته، محاولة للمزاوجة بين هذه التوجهات جميعاً، ولعله لهذا وجد في الحزب التقدمي الاشتراكي ملاذه السياسي وفي مؤسس الحزب كمال جنبلاط قائد البدايات.
ولم تكن مصادفة أن تحتل الهند، هند غاندي ونهرو وحزب المؤتمر والاشتراكية الهندية ومدرسة التغيير باللاعنف وبالمقاومة السلبية مكانة متميزة في تفكير جنبلاط وفي عواطفه، ثم في تفكير تلميذه، كلوفيس مقصود.
وكان في تجربة جمال عبد الناصر في قيادة حركة الأمة العربية نحو الوحدة والتقدم، إضافة إلى غناها الذاتي، كل من وما أحبه كلوفيس: هند نهرو ويوغوسلافيا تيتو وبعض صين شو ان لاي وبعض كوبا وغيفارا.. كل باندونغ وعدم الانحياز، ثم التجربة العملية وعلى الأرض لما سمي الطريق العربي إلى الاشتراكية، ومحاولة التوفيق الأكثر جدية بين الإسلام والعروبة والاشتراكية، وهكذا انتمى إليها كلوفيس مقصود بالوعي كما بالرغبة والإيمان بقيادة جمال عبد الناصر.
بعد ذلك تعرفنا على الكاتب والزميل الصحافي في «الأهرام» تحت رئاسة الراحل الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل في أعقاب هزيمة 1967.
وكان كلوفيس مقصود في كل الأمكنة وفي كل الأزمنة لا يتعب من التبشير.
وبقدر ما كانت «الأهرام» في تلك الفترة صوت عبد الناصر بقلم هيكل والداعية إلى العروبة وإلى الاشتراكية وإلى المقاومة والعودة إلى ميدان التحرير، فقد كان بيت كلوفيس مقصود حبة العقد في لقاءات المثقفين العرب والصحافيين الأجانب والديبلوماسيين والخبراء الذين يجيئون ليعرفوا…
لقد أخذ كلوفيس مقصود عن أساتذة كبار وتعلم منهم وبشّر بالمبادئ التي كانوا يعملون لتحقيقها: من كمال جنبلاط اللبناني إلى جواهر لال نهرو الهندي، ومن جوزيب بروز تيتو اليوغوسلافي الوحيد إلى شو ان لاي المليار صيني، ومن أحمد سوكارنو الأندونيسي إلى موديبو كيتا وأحمد سيكوتوري وباتريس لومومبا المبشّر بولادة أفريقيا الجديدة.
ورأى كلوفيس مقصود نفسه مبشراً بالغد الأفضل تحت قيادة عظماء وبالذات منهم: جمال عبد الناصر ومن المفكرين زكي الأرسوزي وقسطنطين زريق وميشال عفلق فضلاً عن فلاسفة ورجال فكر كثر في الشرق والغرب.
فكلوفيس مقصود ملخص مكثف لأفضل ما في جيلَين أو ثلاثة أجيال من المحاولات الرائدة والشجاعة لفتح أفق الغد، بالفكر والإيمان والتجربة.
إنه بريء إلى حد السذاجة، عنيد كالمؤمنين الأوائل، برغم أنه جاب العالم كله شرقاً وغرباً فرافع ودافع وهاجم وتصدى وتراجع بغير أن يرفع الأعلام البيضاء، وظل قلمه بيده يعوّض به نور عينيه.
ولقد عرفنا كلوفيس مقصود السفير العربي لدى الأميركيين، يحاول تخطي الوضع الملتبس، ويتجرع مرارات التهالك في الصف العربي، ويحاول التمويه على الأميركيين بأن العرب موحدون، وعلى الإسرائيليين بأن العرب عائدون إلى القتال.
وبرغم أن أحداً لم يصدقه إلا أنه ظل يعاند واستمر في المحاولة حتى يومه الأخير في الوظيفة بل وظل مستمراً بعدها!
لقد عاش كلوفيس مقصود في وجدان العرب، مقاتلاً من أجل حقوقهم، ولو وحيداً.. وظل ابن الشويفات المتحدر من وادي شحرور وبالعكس، صهر بيروت وبالامتداد العائلي طرابلس، المفكر القومي بين الاشتراكيين، المقاتل بين الديبلوماسيين، الفلسطيني بين العرب، العربي بين الفلسطينيين، المصري الجزائري المغربي، اليمني السوداني التونسي، الخليجي، العراقي السوري واللبناني كأعرق الفينيقيين.
فكلوفيس مقصود هو الصديق الذي يحفظ على البُعد الودَّ ويرمي أحقاد الآخرين في المحيطات الواسعة… وقد اكتمل ديناً ودنيا بالسيدة المناضلة هالة سلام مقصود، إذ كان الداعية وكانت «الفدائي»، وكان الكاتب، الخطيب، المناقش، الشارح، المحاور، وكانت التظاهرة المقتحمة، المقاتلة بوعي وبمعرفة دقيقة لأصول القتال في بلاد الغربة، وخيمة القضية.
ربما لهذا كله، نستذكر معه «خصمه» الصديق اللدود المفكر منح الصلح وقد شَكَّلا معاً، لفترة طويلة، ثنائي الجلسة الممتعة فكراً وظرفاً في «مطعم فيصل» الذي كانت الرسائل إلى أساتذة الجامعة الأميركية بعنوانه.
رحم الله كلوفيس مقصود، وقد لحق برفيقة عمره هالة، وهما شكلا معاً ثنائياً مميزاً، نضالاً وحضوراً فاعلاً زاد من كبر لبنان وأضاف زخماً إلى قضية العروبة وظل يعطي حتى القطرة الأخيرة من العمل بالعلم والمعرفة.