من حق أي مواطن أن يتساءل:
لماذا هذا الكتاب المفتوح الآن، وما فائدة التوجه إلى النواب، تحديداً، وهم على وشك الانصراف ولا يجدون من يودعهم بكلمة طيبة؟
الجواب بسيط وهو من شقين: مبدئي وعملي..
فأما المبدئي فلأن المجلس النيابي يظل بكل علله حارس النظام الديموقراطي في البلاد وحصنه الأخير… ويفترض به ألا يقرّ ولو مرغماً قانوناً يقتل الديموقراطية بالطائفية، ويزرع الفتنة بين المواطنين الذين سيتحوّلون إلى رعايا لطوائفهم ومذاهبهم ومرجعياتها… وما أكثرها في لحظة هبوب الريح المؤاتية، والتي تتخذ من القرار 1559 عنواناً لها.
وأما الشق العملي فيتصل بواقع أن لهذا المجلس النيابي تحديداً الكلمة الفصل في مشروع قانون الانتخابات الذي أحالته إليه الحكومة قبل أيام، معتمدة فيه طبعة جديدة ومنقحة جزئياً من »قانون 1960« المرتكز إلى القضاء، والذي لن يحمل إلى المجلس النيابي الجديد (؟!) إلا الأكثر طائفية أو مذهبية في محيطه المحدود بالجغرافيا وفي التنوع.
ثم إن هذا المجلس، الذي طالما طُعن في أهليته وفي قدرته على الإنجاز، على امتداد عهده الممدد أصلاً، يعيش أيامه الأخيرة.. وهذه فرصة قد تكون تاريخية للسادة النواب كي يفتحوا باب الخلاص أمام هذا الوطن الصغير المهدد الآن، وفي غده، بأن يحترق في أتون حرب التدخل الدولي، بل الوصاية الدولية، عبر مسلسل من الحروب الأهلية المرشحة لأن تمزّق أوصاله وتدمره تدميراً كاملاً.
هي فرصة إذاً، لهذا المجلس بنوابه جميعاً، المعارض لأسباب مبدئية ومنذ اليوم الأول، والموالي بالغريزة أو بالمصلحة، ثم ذلك النفر من الذين كانوا موالين ثم اندفعوا فجأة إلى مقدمة المعارضين، أو الذين كانوا من أصحاب الأصوات العالية في المعارضة ثم أصابتهم »السكتة« فجأة عندما احتدم الصراع السياسي تحت عنوان »قانون 1960« الذي يبدو الآن كأنه الابن الشرعي لقرار مجلس الأمن الدولي 1559.
على أنه ثمة أسباب إضافية لهذا التوجه إلى المجلس النيابي تحديداً:
أولها أن رئيس الجمهورية قد صار، أو صيّر نفسه، طرفاً عندما ألزم نفسه، استرضاءً للبطريرك الماروني، بأن يسعى لاعتماد القضاء دائرة انتخابية، وتحت عذر معلن مفاده: حتى لا ينتخب المسلمون نواباً للمسيحيين.. (أما العكس فقضية فيها نظر)!..
ثانيها ان الحكومة قد عطلت دورها عندما تبنت هذا الاسترضاء قاعدة لعملها، فنبشت من مخلفات التاريخ قانون انتخابات 1960، الذي يشكل مع تعديلات طفيفة امتداداً لقانون كميل شمعون الشهير لانتخابات 1957!..
ثالثها أن المعارضة وقد اكتشفت في نفسها قوة خارقة بعد القرار الدولي قد بادرت إلى التمسك بالقانون المستعاد من حوالى نصف قرن مضى، تدليلاً على »تقدميتها« و»عصريتها« فضلاً عن إيمانها العميق بالديموقراطية ونبذها لآفة الطائفية..
وبرغم أن جميع الأقطاب، من رئيس الجمهورية إلى الحكومة مجتمعة، إلى المعارضة على تعدد رؤوسها إلى المرجعيات الدينية والطائفية، يعرفون أن العودة إلى »قانون 1960« هي خروج على اتفاق الطائف، بل هي اغتيال لتلك التسوية السياسية التي كانت وما تزال ضرورية، فإن الجميع قد اشترك في هذه الصفقة القاتلة.
الطريف أن الكل يشير ضمناً إلى خطورة هذا الارتداد عن اتفاق الطائف، ويحذّر من نتائجه الكارثية… ومع ذلك فإنهم يتسابقون على توجيه الطعنات إليه، على طريقة اغتيال يوليوس قيصر، وحتى لا يكون بينهم بريء يرمي غيره بدم الضحية لكي يزيحه من طريقه فيرثه!
على هذا لم يتبق من مرجعية شرعية مؤهلة لأن تقول الكلمة الفصل في قانون الانتخاب، وتحديداً في »قانون 1960«، إلا المجلس النيابي.
ولهذا كان التوجه، بهذا الكتاب المفتوح، إلى النواب الذين سيكونون غداً هدف اللعنات من شعب لبنان جميعاً، إن هم ارتكبوا هذه الفاحشة.
إنها فرصة لإعادة الاعتبار إلى المجلس النيابي كمؤسسة، بعد كل ما أصابها من اتهامات بالقصور بل وارتكاب »الجرائم التشريعية«، تارة بالتصويت على قوانين مفصلة على القياس، وطوراً بالرجوع عن قوانين سبق للمجلس أن أقرها، من دون أي مبرر مقبول، ودائماً بواسطة الكتل الكبرى التي جاءت بها »المحادل« و»البوسطات« والتحالفات المركبة بالأمر أو بالمصلحة..
… وهي فرصة لأن يحرّر النواب أنفسهم من قيودهم، ولأن يحرروا معهم ناخبيهم والمواطنين جميعاً من التجني اللاحق بهم والذي يصوّرهم كأنهم رعايا في طوائفهم ومذاهبهم وليسوا مواطنين مكتملي الأهلية، و»عصريين« بمعنى أنهم أبناء هذا العصر ذي الشعار الأميركي المذهب والقائل: نعترف بك ديموقراطياً أو لا تكون أبداً!!
… وهي فرصة لأن يسجل هؤلاء النواب سابقة في التحرر من »الزعامات« التي تقرّر لهم وجودهم أو غيابهم، وخصوصاً أن »قانون 1960« يهدد كثيراً من هؤلاء المتباهين الآن باللوحة الزرقاء واعتمادات الطرق والرواتب التقاعدية للذريّة الصالحة، بعدم العودة إلى المجلس الجديد الذي سيحتله الممثلون الشرعيون للمرجعيات الطائفية، وإن كان بعضها لا يرتدي مسوح الشيوخ أو الرهبان..
… وهي فرصة لأن يسجلوا أسماءهم في الغد، فتبقى في ذاكرة اللبنانيين: هؤلاء مَن باشروا مهمة تحريرنا من الطائفية، جلاّبة الحرب الأهلية…
إن هؤلاء السادة النواب يمضون أيامهم الأخيرة في هذا المبنى الفخم بواجهته الأنيقة ثم بملحقه الذي يتسع لممثلي الشعب ومعهم السكرتيرات الرشيقات والمرافقون المتأنقون والكتبة والسائقون و»النخبة« من أصحاب الحاجات والمطالب..
وهم، حتى الساعة، موضع مؤاخذة إن لم نقل موضع طعن في صحة تمثيلهم ناخبيهم، خصوصاً أنهم لم ينجزوا من التشريعات والقوانين ما يتقدم بالبلاد نحو العصر.
… ولا هم أنجزوا، على امتداد ولايتهم الممددة أصلاً، ما يساعد على وقف الانهيار الاقتصادي والفساد الإداري واندثار الأمل بأي إصلاح في الأوضاع المالية أو في التربية والثقافة والإعلام إلخ…
لقد تفاقم الدين العام فلم يفعلوا إلا زيادة مخصصاتهم.
ثم إن بعضهم قد هدر كرامته، بعد ثروته، ليدخل في لائحة محدلة، أو ليرضى عنه قائد »البوسطة« فيحمله معه إلى ساحة النجمة… بالثمن.
إنها فرصة لكي يعوّضوا فيعتذروا عن أخطائهم في الماضي بمحاولة تصحيح الطريق إلى المستقبل.
إنها فرصة لكي يعودوا إلى الأصل، إلى الصح، فيقولوا: لن نوافق على قانون انتخاب يخرج على اتفاق الطائف، فكيف بقانون يقتله ويعيد البلاد إلى مناخات الحرب الأهلية.
إنها فرصة لكي يحموا، بالتشريع، الوحدة الوطنية، ويسدوا المنافذ أمام حرب التدخل الأجنبي التي تتوسل الآن الفتنة الطائفية لتحرير لبنان من وطنيته ومن عروبته، بذريعة الاعتراض على التدخل أو حتى على الوجود السوري.
إنها دعوة للإنقاذ عبر الشرعية، وعبر العودة إلى الأصول التي قفز من فوقها الحكم نفاقاً للطائفيين.
إنها دعوة لإنقاذ التسوية الوطنية التي تمت وتجسدت عبر اتفاق الطائف، المنقوص تنفيذه حتى الآن، والذي أدى ذلك النقص في تطبيقه، أي القفز من فوق ضرورة إقامة الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، إلى استعار نار الطائفية السياسية.. وهذه المرة، كما دائماً، لتوسيع الباب أمام التدخل الأجنبي.
أيها النواب: كونوا، مرة، ممثلين للشعب وطموحه إلى غد أفضل لا يمكن الوصول إليه طالما أنكم تريدون إعادته بالقانون إلى الماضي، وطالما تجبرونه على أن يكون طائفياً في ممارساته السياسية التي أرادها ويريدها ديموقراطية.
أيها النواب: كونوا مرة نواباً!
وسلام على من اتبع الهدى…
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان