طلال سلمان

كتابة على جدار الصحافة (15) هوامش

«حـرب أجهـزة»… والهاشـميون يلتحقـون بالسـعوديين لقتـال عبـد الناصــر
ريمون اده: نحن ضد الشيوعية ومع مشروع ايزنهاور.. فلماذا لا نقبض الثمن؟
في أواسط أيار 1961 دعا رياض طه إلى اجتماع طارئ لأسرة التحرير، جاء إليه القياديون في جريدة «الكفاح العربي» ومجلة «الأحد» و«وكالة أنباء الشرق»، ومحامي المؤسسة ورفيق صباه محمد الساحلي وممثله الشخصي في العلاقات مع القوى النافذة بدءا من المفاتيح الانتخابية في منطقة بعلبك ـ الهرمل وصولاً إلى بعض إدارات الدولة وانتهاء ببعض مشايخ الخليج العربي عبد الخالق محفوظ، وشارك معنا كضيفي شرف الشاعر موسى الزين شراره وكاتب اللطائف معروف سويد.
قال: ان لبنان ما بعد المحاولة الانقلابية التي سعى لتنفيذها الحزب القومي السوري بإشراك عدد من كادراته العسكرية فيها قد أحدث هزة عنيفة للنظام، الذي سيغدو بعد الآن شرساً وسيشدد من قبضته الأمنية.
قال معروف سويد ضاحكاً: بالأصالة عن نفسه وبالوكالة عن غيره.. ابتسم رياض طه واستأنف كلامه قائلاً: من نتائج هذه الهزة تزايد نفوذ المكتب الثاني وتأثيره في الحياة السياسية. كان الأمن العام هو المسؤول، حتى الأمس القريب، عن متابعة الأحزاب والمنظمات ومختلف الأنشطة السياسية. أما اليوم فيبدو ان المخابرات العسكرية عندنا ستقتدي بمثيلاتها في سوريا ومصر، وستكون لها اليد الطولى في هذا المجال… وأخشى ان تشتد المنافسة بين الجهازين الأمنيين فيدفع اللبنانيون الثمن من حرياتهم وأنشطتهم السياسية.
كان الجميع يستمع باهتمام، وسأل واحد منا: ـ كيف نتصرف إذن؟
تابع رياض طه كلامه متجاوزاً السؤال: لنترك جانباً ان المكتب الثاني قد حاربني بشراسة في الانتخابات، مع انه أمر ليس من السهل نسيانه، خصوصاً انه قد مد الحرب حتى شملت معظم الوجوه الوطنية أصحاب مشروع التغيير.. علينا بالمقابل ان نتنبه إلى ان الأمن العام الذي سيلعب غداً دوراً أكبر، خصوصاً ان مديره العام الجديد عسكري تم فرزه من الجيش. ومعروف ان الامن العام، مرتبط، تاريخياً، بأجهزة الأمن الفرنسية. وعلى هذا سيتحول لبنان إلى ساحة حرب بين الأجهزة… لكل هذا علينا التنبه والتعامل بوعي مع هذا الواقع حتى لا نخوض معارك خاسرة. علينا ألا نقع في شباك نهّازي الفرص فتضيع منا الطريق ونتحول إلى مجرد منفذين لأغراض الآخرين.
قال معروف سويد: إذا صح استنتاجي فإن الضحايا هم بغالبيتهم العظمى من الاخوان العرب، الفلسطينيين والسوريين تحديداً. وأفترض أن الحملة تستهدف التهويل علينا وتصوير الرعايا العرب من الفقراء كمتآمرين أو مهربين، أو ـ في أبسط الحالات ـ كمشاغبين على أنظمة أخرى خارج لبنان.
ولكن ما السبيل للتمييز بين «الإخبارية» أو «الدسية» طالما ان مراجع الاخبار هي التي تهندس الأخبار وتوزعها؟
انفض الاجتماع وعاد كل إلى مكتبه، وألقى الفتى نظرة ثانية على الصحف الصباحية فاستوقفه فيه ما يؤكد كلام رياض طه عن المنافسة الشرسة بين الجهازين الأمنيين، كان في بعضها أخبار بعناوين مضخمة عن نجاح الأمن العام في كشف شبكة تخريب عناصرها من «الأغراب»، بينما تابعت صحف أخرى «قضية التجسس الخطيرة» التي ترصد «الأجهزة المختصة» والتي تشير إلى ان «بعض الشخصيات متورطون في الاتصالات» وان التحقيق مستمر للوصول إلى الحقيقة.
كان يمكن الاستنتاج ببساطة ان أجهزة رسمية تعمد إلى بث جو من القلق لتصوير «العهد الشهابي» وكأنه مستهدف بسبب من موقفه السياسي واضح الانحياز إلى الرئيس جمال عبد الناصر ودولة الوحدة، في حين كانت صحف المعارضة تتهم «العهد الشهابي» بأنه قد «ضحى بسيادة لبنان واندفع إلى قمع الحريات» وانه يعتمد سياسة خرقاء تتسبب في ان يخسر لبنان أصدقاءه الكبار في الغرب من دون ان يفيد من الشرق الشيوعي».

^ يوماً بعد يوم كان يتبلور الانقسام السياسي في البلاد متخذاً شكل الفرز بين المحسوبين على العهد، وقد اختاروا أو اختير لهم تسمية «جماعة النهج»، وبين المعارضين الذين كان أبرز وجوههم ولسانهم الفصيح عميد الكتلة الوطنية العميد ريمون اده. ومع ان الأكثرية في المجلس النيابي كانت للنهج فإن المعارضة استمرت تشن حملة ضارية على العهد، تولت قيادتها اعلاميا جريدة «النهار» بقيادة غسان تويني الذي كثيراً ما استخدم ريشة رسام الكاريكاتور بيار صادق للسخرية من «الأجهزة» والموالاة الموجهة.
بالمقابل، بدأ يتوافد على بيروت بعض أقطاب المعترضين على «الهيمنة المصرية» على سوريا، وتحول الجمهورية العربية المتحدة إلى «دولة بوليسية».. وكان بعض قادة حزب البعث كميشال عفلق وصلاح البيطار ورفاقهما ممن افتقدوا الدور الذي كان يرونه من حقهم في دولة الوحدة قد انقلبوا إلى معارضين شرسين لقيادة عبد الناصر، وباشروا إعادة ترميم الحزب الذين كانوا قد أعلنوا حله حين وافقوا على ان يكون الاتحاد الاشتراكي هو التنظيم السياسي الوحيد لدولة الوحدة، وان يكونوا فيه.
بالمقابل كانت السعودية بقيادة ملكها سعود بن عبد العزيز تشن حملة ضارية ـ وان بصورة غير مباشرة ـ على جمال عبد الناصر والوحدة، وكانت جريدة «الحياة» التي عرفت بالأصل «هاشمية الولاء» طليعة هذا الهجوم. وبطبيعة الحال فقد تلاقت في الهدف مع «النهار» خصوصاً ان صداقة شخصية متينة، كانت تربط كامل مروه وغسان تويني. وكانت «الحياة» ـ وقبل ان يصبح لها مقرها الخاص ـ تصدر من بعض الغرف في المبنى نفسه الذي كانت «النهار» تشغل جزءا منه في سوق الطويلة، بجانب مطعم العجمي، وقد كان ملتقى العديد من أصل السياسة والكتابة ووجهاء المجتمع في حين كان فندق السان جورج منتدى الفئة العليا من السياسيين المعارضين وبينهم كامل الأسعد وريمون اده ورجال المال والأعمال.
كان كامل مروه صحافياً متميزاً، وكان كاتباً غزيراً. وعرف عنه انه كان يكتب ثلاثة او أربعة تعليقات يومية، بأسماء مختلفة، وان ظل «عربياً» في اهتماماته، بينما غسان تويني «محلي» بالدرجة الأولى.
ولقد وجد العديد من أهل السياسة والحزبيين «المرتدين» عن إيمانهم بالوحدة، ممن يتقنون فن الكتابة، في «الحياة» منبراً مهماً، في حين حول ميشال أبو جوده مكتبه في «النهار» إلى منتدى للمعارضين العرب لجمال عبد الناصر، وإن حصر مجال مناقشاتهم بالشأن السياسي.
بالمقابل فإن صحف الحزب الشيوعي في لبنان، و«الأخبار» منها بالتحديد، تشن حملة قاسية على جمال عبد الناصر و«حكمه البوليسي القمعي» وعلى دولة الوحدة «التي يتجسد فيها قهر إرادة الشعب السوري وتعطيل حياته السياسية».

^ تبلور الانقسام السياسي واتخذ طابعاً أكثر حدة مع طرح الرئيس الأميركي ايزنهاور المشروع الذي عرف باسمه والذي كان يستهدف اقامة طوق عربي ـ إسلامي في وجه التمدد الشيوعي. وهكذا صار هذا المشروع الأميركي بديلاً من المشروع البريطاني ـ الأميركي المسمى «حلف بغداد» والذي انهار وهو وليد مع تفجر ثورة 14 تموز 1958 في العراق.
وذات يوم قصد الفتى العميد ريمون اده في مكتبه ليجري معه حواراً سياسياً لمجلة «الأحد». كان متهيباً، خصوصاً وقد تم تنبيهه إلى ان «العميد» قد يوقف الحوار في أية لحظة إذا ما توغل في مناقشة مقولاته.
ولقد بوغت الفتى حين سمع ريمون اده يقول ضمن جوابه حول ما يجب ان يكون موقف لبنان من هذا المشروع: ـ طبعاً أنا معه. فلبنان مصلحته مع الغرب، بل أكاد أقول إنه من الغرب برغم كل ما يقال عن عروبته وعن المسلمين فيه… بل ان بين السياسيين المسلمين من هم مع الغرب أكثر من زملائهم المسيحيين.
حاول الفتى ان يناقش، لكن ريمون اده أفحمه حين أضاف فقال:
ـ يا حبيبي أفهم عليّ… أننا، وبموجب نظامنا، نقاتل الشيوعية ونعتبرها خطراً على النظام، بل وعلى الكيان. وها قد جاء من يدفع لنا ما ينهض باقتصادنا لكي نقاتلها، فهل أرفض هذا العرض السخي؟ ان رفضت أكون مجنوناً، فإن كنت أنت مختلفاً فهنيئاً لك بجنونك.

^ هكذا ومن دون ترتيب مسبق نشأت جبهة معادية لدولة الوحدة ورئيسها جمال عبد الناصر تضم من تبقى من «الهاشميين» الذين انضموا إلى من كانوا خصومهم التاريخيين أي السعوديين، وقد أضيف إليهم ـ ولو بغير تنسيق مسبق أو تحالف معلن ـ بعض قادة حزب البعث من السياسيين السوريين، وكان سبقهم إلى هذا الموقف العديد من كبار رجال الأعمال والصناعيين الذين أضيروا بقرارات التأميم… على ان «الاخوان المسلمين» ظلوا الأكثر تطرفاً وشراسة في المعارضة، بل ان بعض غلاتهم أفتى بشرعية اللجوء إلى السلاح لتحرير سوريا من تبعية إلحاقها بمصر التي يحكمها دكتاتور… شيوعي!
على الضفة الأخرى كانت جريدة الحزب الشيوعي «الأخبار» تهاجم عبد الناصر بأقذع العبارات وتعتبره «طاغية» يسخر أجهزة مخابراته وأمنه القومي «لمطاردة المناضلين التقدميين وطلائع القوى الشعبية الحية».

^ ذات غروب جاء الفتى، في مكتبه، أحمد الصغير. كان يبدو مهموماً، وقد بدا وجهه شاحباً.
قال بعد تبادل آخر الاخبار عن الجزائر وثوارها: أريدك في خدمة بسيطة. أنت تعرف كم أعاني من آلام معدتي. لقد أنهكتني القرحة برغم أنني درت على كل طبيب أُرشدت إليه. المهم، أن آخر الأوامر الطبية ان أقصد مصيفاً هادئاً لأمضي فترة راحة، وأنا ـ أصلاً ـ في حاجة إليها بغض النظر عن وضعي الصحي.
سأله الفتى ببساطة: القرحة في المعدة أم هي وافدة مع الجنرال الذي جاءك سفيراً ويحاول أن يجعلك مجرد مرافق؟
ابتسم أحمد الصغير وهو يقول: هذا تقديرك. بالنسبة إليّ هو رئيسي وهو قد جاء ليخدم الثورة. وواجبي ان أكون معه حتى يعرف البلد بمسؤوليها وأهلها فينقل إليهم جميعاً صورة الوضع في الجزائر، ويفيد من طاقات لبنان، وهي كثيرة، في خدمة ثورتنا وأهدافها في التحرير وبناء الدولة المستقلة.
ساد الصمت لدقيقة، ثم قطعه أحمد الصغير بقوله:
ـ لنعد إلى أمر صحتي. بناء على نصيحة الأطباء، وبعد بحث وتدقيق، وجدت ان بلدة ضهور الشوير هي أفضل «مصح» لحالتي. ولقد ذهبت فبحثت حتى عثرت على شقة صغيرة تطل على بعض مواقع الجمال في تلك المنطقة التي قال فيها البعض إنها «جار السما»، ثم ان أهلها يحتفون بضيوفهم. لقد شعرت وأنا بينهم كأنني أعرفهم ويعرفونني منذ زمن بعيد. سأقيم هناك لفترة شهر على الأقل، وربما امتدت إلى شهرين.
قال الفتى معاتباً: أي في انتظار ان يأتيك الأمر بالانتقال من لبنان أو يأتي أمر آخر.
أكمل أحمد الصغير، وكأنه لم يسمع: نتيجة لهذا الأمر المستجد جئت أطلب منك مكرمة أراها جليلة وخدمة من أخ لأخيه. أريد ان أودع عندك بعض حقائبي وحاجياتي لأنني لا استطيع ان أتحمل إيجارين في الوقت نفسه، وما دمت سأدفع للشقة في ضهور الشوير فلا بد أن أترك شقتي المفروشة في بعض نواحي القنطاري عند مدخل وادي أبو جميل.
بوغت الفتى بتواضع الطلب. كان يفترض أنه سيطلب خدمة أهم، وأخذه الإشفاق على هذا المناضل الذي لا يملك إيجار شقة، فتمتم بشيء من حياء:
ـ أنت تعرف ان بيتي ومكتبي تحت تصرفك..
قال أحمد الصغير: هي حقيبتان كبيرتان وحقيبة صغيرة.. فيها كل ما في شقتي، خارج إطار المفروشات.. ولك عليّ الحق في ان تعرف أنها تحوي أهم الكتب التي جمعت وأوراقي الخاصة بما في ذلك دفاتر مذكراتي التي كنت أسجل فيها مواعيدي ومسودات تقاريري إلى المسؤولين في بلادي. لذلك فحفظها أمانة.
زاد ارتباك الفتى وقال بسرعة: لا يهمني ان أعرف ما فيها، فأنا أعرفك، وعلاقتي بك تشرفني لأنني أراها اتصالاً، بشكل ما، مع الثورة التي طالما تمنيت ـ كما غيري من ملايين العرب ـ لو أنني أستطيع خدمتها أكثر وأفضل.
أحنى أحمد الصغير رأسه، وقال بما يشبه الهمس: شكراً. سأبلغك بالموعد، فآتيك بحقائبي إلى بيتك الذي سآخذ عنوانه الآن منك..
وقام الرجل فانصرف، بينما غرق الفتى في بعض شؤون عمله.
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ انتبهت إلى أنني أحفظ تفاصيل التفاصيل عن حبيبي.. أصابع يديه، حركاته العفوية وهو يضحك، مشيته، طريقته في الرقص متى هزّه الطرب.. لكنني أخاف من التحديق في عينيه، فلا تسألني عن لونهما. أخشى ان صورتي فيهما أجمل مني.

Exit mobile version