طلال سلمان

قراءة البدايات بفكر القرن العشرين

في الايام الاولى من شهر آذار 1979، وبعد اسابيع قليلة على انتصار الثورة الاسلامية في ايران بقيادة آية الله روح الله الخميني، كانت طهران، ومثلها قم وعموم المنتديات تضج بحوار خصب ومفتوح حول »الجمهورية الاسلامية« التي كانت بعد، »فكرة« او »مشروعاً« قبل اعلان قيامها رسمياً، بوصفها »دار الاسلام«.
وربما لأنني »عربي« فلقد صدقتني بعض الآراء المتطرفة التي سمعتها من بعض المراجع السياسية الدينية التي حاولت ان أناقشها في التصور الايراني الاسلامي لهذه »الجمهورية« العتيدة.
كان بين من حاورت حول هذه المسألة: الحسن بني صدر، الذي سيغدو بعد ايام، اول رئيس »مدني« لهذه الجمهورية ذات الهوية الدينية المعلقة.
اما الثاني فكان احد رموز النضال، ومن موقع »جهادي« تتداخل فيه السياسة مع الدين، الامام الطالقاني.
ولقد اثار دهشتي ان الرجلين، توافقا، ومن موقعين مختلفين الى حد التناقض، على اتهام العرب بتدمير النموذج الأولي للدولة الاسلامية كما كان بدأ بإرساء دعائمه الاولى النبي محمد في المدينة المنورة، والذي سعى الخلفاء الراشدون لاستكماله الى هذا الحد او ذاك ثم دمره معاوية بن ابي سفيان، حين آلت اليه الامور بعد مسلسل من الفتنة والحروب الاهلية، تمهيدا لأن يقيم على أنقاضه مشروعه الخاص: الامبراطورية الثالثة، كوريثة للامبراطوريتين المهزومتين: البيزنطية (الروم) والفارسية.
كان الفارق الوحيد ان نبرة الحسن بني صدر كانت »عنصرية« تنضح بالنقمة على هؤلاء الأجلاف من البدو والذين دمروا تحت ستار من الشعار الديني حضارة فارس… في حين ان الإمام الطالقاني غلّب المنطق الديني واعتبر ان معاوية حين ألغى الشورى وحصر الحكم في ذريته وفرض ابنه يزيد خليفة من بعده انما خرج على اصول الإسلام، والمبدأ الاساسي لحكم الشورى فيه، منهيا بذلك »الحكم« بقيام دولة المستضعفين التي يفترض ان ترسي دعائم العدل وتنهي المظالم وتفتح الباب امام مشروع إنساني نبيل وجديد.
استذكرت هذه المحاورات وأنا أقرأ الكتاب الممتاز بالجهد المبذول فيه لزميلنا في »السفير« زهير هواري، والذي أعده كرسالة للدكتوراه التي نالها بدرجة جيد جدا، مما يكافئه بحق على ثلاث سنوات من العمل الدؤوب لإنجازها، فضلا عن قراءاته وأبحاثه السابقة، وهي عديدة ومتنوعة.
كان طبيعيا ان استذكر عبر القراءة العديد من الكتب المراجع التي استعان بها وأفاد منها زهير هواري، والتي اثبت قائمة بها في آخر الكتاب، وأن تطاردني عبر القراءة الاستنتاجات التي توصل اليها بشكل خاص عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في سفره الرائع »الفتنة الكبرى علي وبنوه«، وكذلك الشروح التفصيلية والإسنادات المهمة التي انتهى اليها الدكتور ابراهيم بيضون، في بضعة من كتبه عن »فجر الاسلام«، وإن كان »الطيف« الذي استمر حاضرا طيلة الوقت من البحاثة العرب الكاتب العربي احمد عباس صالح…
لقد اختار زهير هواري بوعي زاوية سياسية بل منطقا سياسيا معاصرا في مراجعته لمرحلة البدايات: من الدعوة الى الدولة، وعلى هذا فقد اعطى كتابه عنوانا صريحا ومباشرا »السلطة والمعارضة في الاسلام«.
ولعل مثل هذه الصراحة في الطرح تتسق مع »طبيعة« زهير هواري، اي مع ثقافته ومع تجربته الشخصية، سياسيا وفكريا، فهو »مدني« وليس متفقهاً في الدين، وهو »مناضل سياسي« بثقافة يسارية، وبالتالي فهو يناقش من خارج دائرة »المقدس« فيعرض الامور بمنطق تحليلي مباشر، مسقطا تصنيفات معاصرة على احداث غابرة، معيدا تفسيرها وفق منهج »ديالكتيكي« صريح.
انه لا يداري ولا يجامل ولا يتهيب من استخدام لغة حديثة جدا، يكاد مضمونها الماركسي ان يطل عبر السطور، فينجح احيانا، وتخذله الوقائع او الشواهد البسيطة احيانا اخرى، لعجزها عن تحمل ضغط تحليل معمق يتجاوز دلالاتها الفعلية في سياقها الطبيعي.
انها قراءة معاصرة، تخالف في كثير من جوانبها ما اعتمده البحاثة والكتاب، لا سيما العرب، في محاولاتهم لفهم تلك المرحلة الغنية بإشراقات الدين الجديد وبالشخصيات القيادية الفذة التي اصطنعها »الاسلام« من بعض رجالات مكة والمدينة الذين كانوا حتى ما قبل »الدعوة« تجارا ووجهاء وزعماء قبائل عاديين، فإذا بالرسالة تدخلهم التاريخ باعتبارهم من صناعه.
يعيد زهير هواري، على سبيل المثال، قراءة العلاقة بين الرسول وأهل المدينة، الذين سيصيرون »الأنصار«، فيكتشف فيها اثرا للخؤولة، كما يرى في معارضة القبائل اليهودية في المدينة معارضة اجتماعية وفكرية…
وفي هذا التفسير »جديد« يستوقف القارئ بقليل او كثير من النقاش.
ومع توكيده على ان لا نص على قرشية الخلافة ولا وصية تحدد خليفة الرسول، فإنه يرى ان الخليفة الراشدي الاول هو بطل توحيد الجزيرة العربية للمرة الاولى في حين ان عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب حمل معه اشكالياته، مصنفا منهجه »بالوسطية«، ثم انه يذهب الى حيث تردد معظم المؤرخين والبحاثة فيشير بإصبع الاتهام الى عدد من الصحابة بأنهم كانوا وراء اغتيال الخليفة الراشدي الثاني، مستخدمين القاتل »المجوسي« ابا لؤلؤة كأداة تنفيذ.
وهو يطرح جديدا في استنتاجه ان عليا بن ابي طالب ومعاوية كانا في موقعي السلطة والمعارضة في الوقت ذاته.
اما الخوارج فرأي زهير هواري فيهم حاد: لقد كانوا فوضويي الأمة ولم يكونوا جمهورييها. ولقد حاولوا اقامة بنية قبلية خاصة بهم تعتمد النص الديني كما فهموه.
في بحثه حول الشيعة يغوص هواري عميقا في الانشقاقات والخلافات بين الفروع والاصول من ابناء الحسن والحسين ومحمد ابن الحنفية، ليصل الى استنتاجات مفاجئة وأحيانا مغايرة لما هو سائد، او بات سائدا، من تعريفات وتحديدات قاطعة ومعتمدة من اصحاب المذاهب والشيع والنحل المتشيعة والتي تفترق في اساسها عن الشيعة الجعفرية الاثني عشرية…
كذلك فهو يضفي صفة »الثورة« على الخلافة العباسية: فهي لم تكن ثورة الموالي، ولم تكن ثورة اليمانية، بل هي ثورة الثورات اذ انضوى فيها المرجئة والخوارج والقدرية والقبائل اليمنية، فضلا عن اصحاب العقائد القديمة في خراسان…
ويخلص زهير هواري الى الاستنتاجات التالية:
1 رافقت المعارضة الدعوة الاسلامية منذ انطلاقها في مكة.
2 لم يختلف ما حدث في عهود الخلفاء الراشدين عما شهدته المرحلة التكوينية، بل جاء استكمالاً له وبالمنطق نفسه.
3 حرب صفين، بعد اغتيال خليفتين سابقين، هما عمر وعثمان، انما هي تعبير عنفي عن المأزق الاسلامي في مواجهة قضية الارض وملكيتها.
واغتيال الخلفاء الراشدين الثلاثة انما هو انفجار للصيغة البدائية: قرشية الخلافة.
اما الفكر الشيعي فلم ينشأ دفعة واحدة، ولم تكن نظرياته ناجزة ابدا، ولم تكتمل الا في عهد الدولة العباسية.
انها تلخيص مبتسر وقد يكون ظالما لبحث جاد ومرهق تضمنته ستمئة صفحة (من القطع الكبير) بغير ان تضم خاتمة لهذا النقاش المفتوح منذ اكثر من الف وأربعمئة سنة والذي سيظل مفتوحا حتى يقضي الله امراً كان مفعولاً.
لقد اجتهد زهير هواري فأصاب احيانا، ولربما جانبه الصواب في احيان اخرى: ان ذلك يتوقف على القارئ بعينه او بقلبه، بإيمانه او بفكره.
انها اطروحة سياسية من الدرجة الاولى تتصدى بشجاعة لمسائل طال حولها الجدل، ومنعت الحساسيات الدينية او المذهبية البحاثة العرب، على وجه الخصوص، من الحسم فيها، بعد كل هذه الدهور من الصراعات والانشقاقات والحروب الاهلية واختلاف الرواة والروايات الى حد التناقض والتصادم والنفي ونفي النفي:
لكن زهير هواري نجح، بفضل نزاهته وانتفاء الغرض، والمحاولة الدؤوبة للوصول الى يقين وسط بحر متلاطم من الروايات المتناقضة بحسب الهوى والتي تضفي عليها مهابة الرجال الذين افتتحوا فصلا جديدا في التاريخ الانساني »قدسية« تفرض، في الغالب، المداراة او المجاملة او تجنب الاشكالات المؤذية.
نجح في تجديد النقاش على أسس مختلفة، وبمنطق معاصر…
…وليس للتاريخ طبعة واحدة. لذلك لا بد من الاجتهاد في فهمه.
وهكذا فقد اجتهد زهير هواري فإن كان اخطأ فله اجر واحد، وإن كان أصاب فله اجران… تماما كما كان لسابقيه، وبالذات منهم هذا الذي رافقني في قراءة هذا الكتاب الجيد: احمد عباس صالح.

Exit mobile version