من أزمنة بعيدة، تسود بين الجماعات والدول، حقيقة اللامساواة. ما يرتسم حالياً، في حقبة التحولات العالمية، هو سَوْقُ الجميع، إلى زمن انحلال الدول المريضة والضعيفة والمرتبكة والعاجزة و… المنافسة، إلى حقبة تسود فيها سلطة عالمية، بقيادة عسكريتاريا مالية تعلن بطريقة جليلة وجريئة: “أنا الإله فأطيعوني”.
أفضل وسيلة لتسريع الانتقال إلى نصاب العولمة التام، بكامل عناصره ومقوماته وأدواته، هو التوسع في ارتكاب الحروب المتسلسلة. الحروب مختبر دموي، يُفرز مشاريع انهيارات وتحولات مريعة، على رأسها، سقوط بنيان الدولة وتمزيق نسيجها وتدمير ثقافة وتراث الماضي كله. التاريخ في هذه الحقبة، يبدأ من الآن. هذا يتطلب تحويل الدول إلى أسواق وتحويل المدن إلى قرى، وجعل القرى ملجأ الحزانى والجائعين والمرضى. وتتولى الرسائل التواصلية الإلكترونية نقل الدولة من بنيانها المعروف والمزمن، إلى قرية الكترونية صغيرة.
فرنسيس فوكوياما، إفتتح نبوءة النهايات منذ عقدين. أعلن عن انتصار الديموقراطية الليبرالية الغربية تحديداً. والغرب هنا، هو الإمبراطورية، التي ستصبح العظمى والوحيدة. امبراطورية يقع على عاتقها وحدها، مسؤولية قيادة البشرية. سيتعولم الاقتصاد والثقافة. ومع هذه العولمة، تتراخى الحدود. لا تعود مانعاً، بل رابطاً ضرورياً بين مدن الإنتاج والشركات الكوكبية، التي تبشر بدين الاستهلاك.
هل ستلغى الحدود بين الدول؟ طبعاً. ستسقط بسهولة. أحد نماذج سقوط الحدود، السياسات الأميركية التدخلية. أميركا لا تطلب إذناً من أحد في مواجهتها مع الصين وروسيا. الأخيرتان قاطرتان عولميتان، في أطر إقليمية. وهكذا، وبسرعة، سيصل العالم إلى مرحلة نهائية هي “الدولة العالمية”. وفي هذه “الدولة” سلطة، تأمر ولا تُؤمر؛ تسهر على تنقل رؤوس المال، من دون رقابة الدولة العظمى. هذه الدولة العظمى، مأمورة من قبل سلطة رأس المال. رأس المال أقوى من كل الأسلحة الفتاكة والجهنمية.
هل سيتغير المجتمع؟ طبعاً. لبنان، نموذج مصغّر لحالة عالمية. تغيّر لبنان كثيراً في السنوات العشرين الأخيرة. هو معبر لسياسات خارجية، من دون إذن أحد. حدود لبنان رخوة جداً. يشكو اللبنانيون من ذلك، انطلاقاً من أفكار موروثة، حول السيادة والاستقلال وإلى آخره من أوهام العدالة والتنمية والمحاسبة والمراقبة والنمو والتطور.
لبنان دولة أفقية، لم تعد قائمة على جذور. تُعطى الطائفية أدواراً سياسية. ما تقوم به الطائفية، هو تدمير السياسة. تدمير القوانين. تدمير المجتمع. تدمير الاقتصاد. تأجير السيادة للآخرين. نموذج دولة اللادولة، هو لبنان، ولا يحاولن أحد أن يُبرئ نفسه، بأي حجج، ولو كانت حججاً إلهية.
الله في نظام استبداد العولمة، لن يكون مرحباً به. سيتحول الدين إلى فولكلور أحياناً، وأداة إكراه وعنف في حالات أخرى. تدجين الدين، هو إحدى مرتكزات الإله الرأسمالي الجديد.
ثم يأتي من يسألني: هل أنت على ما يرام يا نصري؟
ماذا أقول له؟ أتهرّب من الإجابة. ألجأ إلى الكذب. الكذب يحميني من عبودية “السين جين”. إنما، عندما أعود إلى الصمت، ومن دون إذنٍ مني، أشهد أنني أمام حالة إفلاس كوني. لبنان، هو فاصلة منسية، في نص المأساة الكونية. عصر الأنوار انطفأ. زمن التحرر انكسر. زمن الحرية يموت. الزمن الإنساني تم اغتياله.. والأدلة كثيرة.
في مخيم الظلمة، رحت في رحلة مأتمية. هناك كرة أرضية، تتعرض للتوحش. الدول العظمى، حيوانات افتراس. حالة إفلاس أخلاقي غير مسجلة في تاريخ وعصور الظلمات الأولى. دول فاخرة جداً، وفاخرة مطلقاً. الحداثة المعاصرة، بلغت مرتبة التوحش المقدس، وعليك أيها الإنسان أن تكون عجلة فقط، في المسار المعد لنهايتك.
سيقال: هذا موال تشاؤمي قديم. كنت أخجل من انتمائي للكوارث. وأصدقائي يُطلقون عليّ ألقاباً صحيحة. أسهلها التشاؤم. لكني، وأنا على هذه المنصة الملعونة، ما زلت على يقين، بأن الآتي أعظم. وأن الجحيم الموعود لأهل الخطيئة، مجرد نزهة إلزامية ومؤلمة. هذا الجحيم ومهما كان عذابه لن يبلغ أبداً حد عذاب الجحيم الدولي الذي أنجبته أزمنة التوغل في التوحش الراهن والقادم.
كانت الشكوى من الاستبداد، وما تزال. وكانت الشكوى أيضاً من الفوارق الطبقية، وما تزال. كُنتَ ترى في شراهة الحداثة، ودول النقاء السوبررأسمالي، ما ينبئ بتحويل البشر إلى عبيد بقيادة قراصنة. لم نصدق مفكرين تنبأوا منذ عقدين، أن الرأسمالية الظلامية، ستهزم الإنسان. بعضهم طلب منا أن نتلو فعل الندامة، بسبب براءتنا وعجزنا. هذا هو عصر الفوضى الحربية، وهذا هو زمن العبودية المعبودة. الانقلاب على الآلهة حصل مراراً، ولكن الزمن الراحل، لم ينل من مكانة الإيمان بالله. أما في الزمن الحالي فإننا لا نبالغ، إذا قلنا أن المال، رهن الآلهة في محفظته، على أن يتبنى “المؤمنون به” دين الدولة الكونية العظمى.
البشرية راهناً، هي في طريقها إلى دولة التعري من القيم والأخلاق والإيمان. يتسارع المؤمنون بما بعد الحداثة، بالانتظام في مسيرة التعري من القيم والأخلاق والإنسان. الأساليب كثيرة. أجدرها وأكثرها رواجاً وفعالية، تشجيع الصراعات واستعجال الحروب ونشرها في القارات الخمس. ولقد أثبتت السنوات العشرون الفائتة، أن “البلاد العربية”، ارتحلت وجودياً من تاريخها وجغرافيتها إلى حظيرة “التأميم الدولي”، بقيادة زعماء ورؤساء، هم مجرد خُدّام لدى الجحيم الإنساني الراهن. الحروب مائدة وغذاؤها الإنسان.
هل هذا فصل تشاؤم جديد؟ لا. إن تفتيت العالم، نهج نيورأسمالي. والأدلة كثيرة، وأبرزها، الطاعة العمياء لواشنطن، وطاعة دول الغرب المتوحشة، لتل أبيب؟ هل هذا مسبوق أم أنه جديد وراهن ويخوض أفدح المعارك في القارات الخمس؟
إن العالم، كما تريده الرأسمالية المتوحشة، هو في تعميم نظام شمولي لا مكان فيه للاختلاف. الإنسان المثالي في هذه الحقبة، هو الإنسان المطيع. علينا أن نُصدّق أن الرأسمال أقوى من الله.. وفي الأناجيل، أقوال للمسيح: “لا تعبدوا ربين: الله والمال”. أتباعه، كما تدل سيرتهم وصورهم ومصارفهم، باتوا أسرى “المافيات”..
غداً ستختفي أفكار وعقائد، أضحت الآن في خبر كان السياسي. وداعاً لماركس. وداعاً لأنطون سعاده. وداعاً لميشال شيحا، وداعاً للقوميات، وداعاً للإنسان. وداعاً للحرية.. وداعاً حتى انقطاع النفس. العالم القادم، هو عالم أدوات. ونحن نصبح أدوات فقط.
العمل جار من زمان على غسل الأدمغة. ألا ترونهم وتسمعونهم؟ ألا ترون كيف تفتت المجتمعات “الدول العربية”. دلونا على دولة أو دويلة أو إمارة.. لا تعيش نهايتها أو خوفاً من بلوغها.
أخيراً. وداعاً أيها الماضي. لم نعد بحاجة إليك. وداعاً أيها المستقبل.. لا أفق لك.. وألف انكسار في حاضر مخيف وذليل.
يستثنى فقط، أهل غزة وفلسطين والقوى والجبهات المساندة لهم. مع خوف يتنامى عندي.. لن أكتب أو أفصح عنه.
ليت لا.