لولا “غزة هاشم” لنسي العرب فلسطين، قضيتهم التي كانت مقدسة وصارت مطروحة في مناقصة مفتوحة بين العدو الاسرائيلي وراعيه الاميركي الذي جعله التخاذل العربي الخصم والحكم.. وباب التنازلات سعياً إلى “الحل” أي حل، ولو كان ثمنه ضياع فلسطين.
فالسلطة التي لا سلطة لها في الضفة الغربية لا تملك قرارها، فهي مرتهنة للمحتل الاسرائيلي الذي ما زال جيشه معززاً بشرطته هو “السلطة” الفعلية: ينسف بيوت المقاومين الذين يصنفهم “ارهابيين”، ويعتقل الرجال والنساء، الشباب والصبايا والفتيات الصغيرات اللواتي تشربن روح المقاومة من شراسة الاحتلال واعتداءاته اليومية على الشعب الفلسطيني.
و”الوسيط” الاميركي حليف حقيقي للعدو الاسرائيلي، لا يكتفي بتزويده بالسلاح المدمر واسرار تصنيعه، طائرات وحوامات ودبابات و”صواريخ ذكية” بل يفتح له ابواب العواصم العربية المغلقة.. والدور الآن على الخليج العربي بدوله المختلفة، كبيرتها والصغيرة، وآخرها عُمان وسلطانها قابوس.
وكان السلطان قابوس يعتمد تحييد سلطنته عن الصراعات العربية ـ العربية، كما عن صراع بعض الدول مع الغير… وكانت دبلوماسيته تتقدم دائماً للعب دور الوسيط بين “الاخوة ـ الاعداء”، او بين بعضهم في الخليج العربي وبين ايران، ويتعاطى بموضوع العلاقات مع العدو الاسرائيلي بحذر..
فجأة استفاق المواطنون العرب على زيارة سرية معززة بالصواريخ لرئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو ومعه عقليته والسلطان يُقبل عليها مصافحاً ومرحباً بحرارة.. وعند باب الخروج يصرح بأن هذه الزيارة تأتي في سياق توطيد العلاقات مع امارات الخليج العربي، ثم يضيف بحماسة: أن ابواب العالم العربي باتت، بأكثريتها مفتوحة للصلح مع اسرائيل، وهذا يطمئن على المستقبل!
أول الغيث جاء من دبي التي اعلنت اسرائيل رسمياً، انها ستفتتح قريبا قنصلية لها فيها.. وينتظر أن تلتحق بها مملكة البحرين قريباً، خصوصاً وان “وفوداً شعبية” منها قد زارت دولة الاحتلال الاسرائيلي بذريعة، الصلاة في المسجد الاقصى..
*****
لكن هذه المشاهد لا تقدم الصورة الكاملة عن الصراع العربي ـ الاسرائيلي بعنوان فلسطين فثمة حقائق راسخة تُكتب يومياً بالدم، لا يمكن حذفها او تجاهلها..
فلقد صيرت المقاومة الباسلة والصمود العظيم “غزة هاشم” اخر قلعة لإرادة الامة العربية في الصمود ومواجهة العدوان الاسرائيلي المفتوح على شعبها الفلسطيني، غارات طيران متواصلة، ومدفعية جيشه والصواريخ المدمرة لا توفر جامعة او مدرسة فضلاً عن بيوت الفقراء ودور العبادة ومخيمات النازحين… ومع ذلك يخرج فتية غزة كل يوم جمعة إلى الشريط المكهرب الذي أقامه العدو الاسرائيلي حداً بين القلب والعين وقد حملوا “اسلحتهم الثقيلة” من الحجارة المباركة، ليقذفوا بها المستوطنين المسلحين والجنود المختبئين في دباباتهم او في منصات اطلاق الصواريخ.
يحمل شهداء الغد من فتية غزة شهداء اليوم وجرحاهم الذين يرفضون الخروج من الميدان، ويركضون بهم إلى أي “مكان آمن”، ليعودوا بسرعة إلى ميدان المواجهة..
يجلس “العرب” في “الدول” المحيطة بغزة على اقفيتهم امام شاشات التلفزة، يتفرجون على المذبحة الجديدة صامتين، وقد يقرأ بعضهم آيات من القرآن الكريم او من الانجيل المقدس طلباً للرحمة للشهداء… ثم يتنهدون: أهي على ارواح الشهداء في غزة ام على فلسطين كلها، ام على الامة جميعاً؟!
*****
يعود بنيامين نتنياهو من زيارته الرسمية لسلطان عُمان، قابوس ذي العمامة، مبتهجاً ليعلن أن معظم العربية باتت مفتوحة امامه.
يشد السلطان على يدي السفاح وقد افترت شفتاه عن ابتسامة نادرة، ثم يصافح زوجته بحرارة ملحوظة (وهو العازب الابدي)، قبل تبادل الهدايا..
تفسد “الحرب الجديدة” على غزة فرحته بهذا الفتح الجديد في آخر نقطة من الجزيرة العربية، خصوصاً وان وزير دفاعه ليبرمان قد اختار الحرب على غزة طريقا لمنافسة نتنياهو على رئاسة وزارة الاحتلال، فأمر بدك المدن والقرى والمخيمات بوصفها منصات للصواريخ.. لكن الرد جاء اعنف مما توقع فحقق اصابات مباشرة داخل الكيان الاسرائيلي، بل وعطل صواريخه… وهي مفخرة الصناعة الاميركية والمتراس الذي يحتمي به كيان العدو..
هل تقطعت أواصر القربى بين الدول العربية، وانصرفت كل دولة منها الى ترتيب شؤونها ومصالحها على حساب سائر اخوانهم من العرب وفلسطين بالذات؟!
وهل باتت قوة العدو الاسرائيلي ضمانة لبعض الكيانات العربية التي انشئت على حساب حلم الامة بالوحدة، او بالاتحاد، او بالتضامن، وهذا أضعف الايمان؟
أن العرب يقاتلون، الآن، العرب: من اليمن إلى سوريا فإلى العراق فإلى ليبيا في الشطر الافريقي من الوطن العربي..
والدول العربية، عموماً، تشتري اكثر من حاجتها لحماية كياناتها، وبعضها شرعي وله حيثيته التاريخية، وبعضها الآخر مصطنع ومبتدع لأغراض الخارج ومصالحه..
بل أن العديد من الدول العربية “محميات”، يحرسها الخارج ويرعاها لأنها تحقق له بعض مصالحه او تحميها.. من أهلها الأقربين!
هل باتت الولايات المتحدة الاميركية (وضمنها اسرائيل) هي “مرجعية العرب” في الحرب والسلم.. في الحاضر والمستقبل، علما بأنها تنظر إلى الكيان الاسرائيلي، وكـأنه ولاية اميركية قوية مزروعة في هذا الوطن العربي لتبدل من طبيعته وهويته وتجعله مجرد جهة جغرافية: فهو “الشرق الاوسط”، الذي لا اهل له كانوا على امتداد التاريخ اهله، ولا هوية له في الماضي او في الحاضر، ولا مستقبل له الا بالقرار الاسرائيلي، وهو هو القرار الأميركي.
والسؤال الحقيقي، في هذه اللحظة: إلى أين سوف ينتهي العرب؟ والى ماذا ستنتهي دولهم المقتتلة والتي تستنفذ مواردها في الاقتتال في ما بينها، من سوريا إلى العراق، إلى اليمن، إلى ليبيا الخ..
انهم، عموماً، يستظلون الحماية الاميركية، وهي هي اميركا التي تسلح اسرائيل بأحدث وأقوى الاسلحة وتدعم اقتصادها وتفتح لها العواصم المغلقة في وجه تمددها بهدف الهيمنة على المنطقة جميعا؟!
تلك هي المسألة، التي ستبقى جرحاً مفتوحاً ينزف كرامة الأمة ومستقبل كياناتها التي اصطنعها ـ بمعظمها ـ الاجنبي، وما زال يصادر قرارها او يتحكم به حتى اليوم؟
تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية