قبل أربع وأربعين سنة، وفي قلب الحرب الأهلية ـ العربية ـ الدولية في لبنان، ابتكر الزميل الكبير غسان تويني رئيس تحرير جريدة “النهار” في بيروت، تعبير “حرب الآخرين على أرضنا”.
لم يكن التعبير “موضوعياً” أو “منصفاً”، مع ان الشرق والغرب، العدو الإسرائيلي كما الأشقاء العرب، كانوا جميعاً أطرافاً فاعلة ومؤثرة في تلك الحرب المدمرة التي نرى الآن “نسخاً” منها، أعظم تدميراً للعمران وأكثر وحشية في القتل، لا فرق بين الرجال والنساء، بين الأطفال والشيوخ، بين مدن التاريخ وإبداعات العقل الإنساني في عصر الظلمات، في أكثر من بلد عربي، وإن ظلت اليمن هي العنوان.
لكن لبنان، وفيه ومنه ومعه اللبنانيون بأكثريتهم الساحقة لم يكونوا خارج الحرب، ومجرد ضحايا لها، بل كانوا ضالعين فيها، توزعهم خلافاتهم العميقة المدعمة بالطائفية والمذهبية على جبهاتها المختلفة.
اليوم تكاد الحرب الأهلية العربية أن تكون شاملة: البعض يهرب منها الى المشاركة في تسعيرها في بلاد غيره من الأشقاء، والبعض الآخر يتوقع أن تصله، ولو بعد حين، فتدمر عمرانه ودولته وترميه على قارعة التاريخ.
من المغرب الى اليمن، مروراً بالجزائر وتونس وليبيا، فالى سوريا والعراق وشبه الجزيرة العربية، ثمة مؤشرات وعلامات على خلل بنيوي في علاقات الأنظمة بشعوبها يتيح للأجنبي (ما كنا نسميه: الاستعمار، ويسمى الآن الإمبريالية ـ الأميركية المتحالفة مع العدو الإسرائيلي) ان يتدخل في الشؤون الداخلية ورعاية المعارضات الداخلية المختلفة وتغذيتها بالمال والسلاح والخبراء المدربين (على طريقة البلاك ووتر).
ومؤكد أن هذا التدخل الفاضح يفرض على المعارضة الشعبية الوطنية أن تعترض عليه، وترفضه قطعاً، حتى ولو استفاد النظام المعني والمتهم بالفساد، والتهمة صحيحة بحق، من هذا الرفض وحاول تدجين هذه المعارضة واستيعابها عبر تخويفها مما ترفضه.
ومع ان الكيانات السياسية العربية قد اصطنعت غالباً في غيبة شعوبها، وأحياناً لإسترضاء أسر حاكمة (الهاشميين مثلاً) أو لتأمين حدود إسرائيل حتى من قبل إقامتها بالقوة والتآمر وخيانات بعض القادة والأشراف والمناضلين ضد الإستعمار العثماني..
مع ان هذه الكيانات قد استمدت شرعيتها من الخارج، ومن فوق رأس الإرادة الشعبية، إلا ان حماياتها الخارجية الدائمة والثابتة، وان تبدل الحامي، قد كلفت الأمة وحدتها، وحتى تضامن دولها على الحد الدنى من مصالحها.
في أي حال فان أنواعاً من الحروب تشن على العديد من الدول العربية ثم تنسب الى الخلافات بين مكونات شعبها، سواء العرقية منها أو الدينية أو المذهبية.
وفي زمن الحرب الأهلية في لبنان، والتي كانت من طبيعة عربية ودولية وان استفاد المخططون لها والمستفيدون منها، من “تركيبة” لبنان بطوائفه ومذاهبه العديدة، والتي تختزن ذكريات صراعات وحروب على السلطة، قبل استيلاد الكيان، ودائماً بالاتكاء على الأجنبي، والصراعات بين السلطنة وأعدائها الذين كانوا يعدون أنفسهم لوراثتها، بعنوان بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية..
الطريف أنه في حين اسبغت فرنسا رعايتها على لبنان، والمسيحيين فيه بعنوان الموارنة، وروسيا على الأرثوذكس، فان بريطانيا قد تعهدت رعاية الدروز.. وترك المسلمون، عموماً، قيد الإمتحان، فمن التحق بالمستعمرين الجدد تم قبوله، ومن أصر على مقاومة الأجنبي بوصفه مستعمراً جديداً سيحل محل مستعمر يعيش آخر أيامه ومصيره السقوط قبل الرحيل ومعه، ترك مصيره للريح.. وتطور الأوضاع!
أما في الحرب الأهلية التي استشهد بها الاستاذ غسان تويني (1975 ـ 1990 عملياً) فان دولاً عربية عديدة قد تورطت فيها، بإعلان مسبق أو بتدخل مباشر، لاحقاً لأسباب تتصل بالخصومات والصراع على النفوذ.
كانت مصر غائبة، معطلة الدور بعد معاهدة كمب ديفيد، فتكابر الصغير، وتعاظم كل المستفيدين من هذا الغياب.. وهكذا فقد كان لكل دولة عربية، تقريباً، جبهة أو حصة أو طرف موال في هذه الحرب التي تم تعريبها ثم تدويلها، خصوصاً وان العدو الإسرائيلي كان له دوره فيها، ثم تجسد هذا الدور على الأرض بالإجتياح العسكري للبنان اوائل حزيران (يونيه) 1982… تمهيداً لأن تستدعى قوات تدخل دولي تفصل بين “قوات الردع العربية” ـ التي باتت الآن سورية بالكامل ـ وبين قوات الإحتلال الإسرائيلي، ثم بين أطراف الصراع المحلي متعدد الولاءات (الحركة الوطنية ـ وبعضها عند القيادة الفلسطينية، ياسر عرفات) وبعضها الآخر عند صدام حسين (حزب البعث جناح العراق وبعض القوى المسيحية التي كانت تعترض على التدخل السوري، وتقاتله بقيادة بشير الجميل).. قبل أن تنجح الوساطات العربية والدولية في إقناع “الأطراف الفاعلة” بضرورة استرضائه بالرئاسة الأولى لإبعاده عن العدو الإسرائيلي، وقد تمت هذه الصفقة خلال شهر رمضان المبارك الذي لم يكن “الشيخ بشير” يعرف أنه شهر الصوم عند المسلمين..
*****
كانت دول الخليج، آنذاك، بعنوان الكويت تقوم بدور الوسيط.. فلما نزلت القوات الدولية تحت الرعاية الأميركية في بيروت وضواحيها، صار طبيعياً أن تتقدم السعودية لترعى الحل بمشاركة سوريا وفي ظل الرضا الأميركي (والإسرائيلي ضمناً)..
بعد ذلك، ستدخل إيران الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني على الخط، وتسعى الى علاقة وطيدة مع سوريا، ومع بعض القوى السياسية والجمهور الشيعي في لبنان.. ثم ان ترعى الحركة الوطنية لمقاومة الإحتلال الإسرائيلي، والتي كانت تضم بداية الحزب الشيوعي والقوميين السوريين، فترعى التجربة الوليدة للمقاومة الإسلامية للاحتلال الإسرائيلي للبنان، والتي ستعرف في ما بعد بـ”حزب الله”.
وبعد ثماني عشرة سنة من الاجتياح الإسرائيلي للبنان نجحت مقاومة “حزب الله” في إجبار العدو على الانسحاب مدحوراً، وعاش اللبنانيون أفراح يوم عيد نادر، في ظل الهزيمة التي ما زال العرب يعيشون مراراتها نتيجة العجز عن مواجهة العدو الإسرائيلي.
لكن دول الخليج، اليوم، غير دول الخليج بالأمس: لقد انفصلت هذه الدول العربية الست عن سائر “الأشقاء العرب”، فأنشأته “مجلس التعاون الخليجي” الذي غدا بديلاً من جامعة الدول العربية وسائر مؤسسات إعلان نوايا الوحدة والإتحاد أو التعاون المفتوح في انتظار الوحدة التي كانت تمثلها تلك الجامعة العربية في القاهرة التي دار بها الزمان دورة كاملة حتى تمكنت دولة بحجم قطر أن تتحكم بقرارها “فتطرد” منها دولة مؤسسة لهذه الجامعة، هي سوريا.
لقد غامر صدام حسين على امتداد السبعينات والثمانينات فحارب إيران الثورة، ثم غزا الكويت في بداية التسعينات، مما وفر المناخ المؤاتي لشن الحرب الأميركية المدمرة عليه، بمشاركة ما سمي “التحالف العربي”.
وها هو العراق بعد خمس عشرة سنة من الإحتلال الأميركي يفتقد الآن وحدته الشعبية، ويحاول ترميم دولته التي شققتها المذهبية، خصوصاً بعدما انتسب الكثير من ضباط صدام حسين وعسكرهم الى تنظيم “داعش” الإرهابي بذريعة الانتقام لأهل السنة بإعادة الخلافة الى الحياة..
أما سوريا فان الحرب فيها وعليها تجاوزت عامها السابع وقد خلط نظامها بين العصابات الإرهابية والمعارضة السلمية، فتفجرت إنحاء البلاد متيحه للدول جميعاً أن تتدخل فيها: الخليج بعنوان قطر ثم السعودية وتركيا والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا التي بادرت الى إرسال “قوات رمزية” لكي تدخل طرفاً في التسوية..
وها هي حرب اليمن التي تشنها السعودية مع دولة الإمارات التي فاجأت العالم بقوة طيرانها وبحريتها فضلاً عن جيوشها البرية، تدمر بلاد العمران الأولى في الوطن العربي..
أما في المغرب العربي فقد سقطت دولة ليبيا القذافي في هوة الحرب الأهلية والانقسامات القبلية والجهوية، ودخل الغرب (أميركا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا.. في حين حاولت مصر حفظ ما تبقى..)
وها هي الجزائر تعيش حالة رئيسها منذ ست عشرة سنة، مشلولة تنتظر رحيله الذي لا يأتي، وتخاف من غدها في ظل أزمة اقتصادية دفعت وتدفع بملايين من أبنائها للسفر الى البلاد التي استعمرتهم لمئة وخمسين عاماً، وكلف إجلاؤها أكثر من مليون ونصف المليون شهيد..
*****
وتسأل عن فلسطين، بينما قادة العرب يزاحمون رئيس الحكومة الإسرائيلية عند أبواب بوتين في موسكو، في طريق العودة من واشنطن، ولا أحد يطلب فلسطين، بل ان أكثرهم بمن فيهم أهل النفط والغاز يريدون توطيد العلاقات الاقتصادية والتجارية (النفط والغاز ومعهما السلاح)..
أما فلسطين فيمكنها ان تنتظر حتى تذوب أو تضمحل أو تقزم، بجهد العدو الإسرائيلي وتغاضي العرب، الى “ولاية ذات استقلال ذاتي داخل الكيان الذي يتسع ليهود العالم أجمع..”.
تنشر بالتزامن مع جريدة “الشروق” المصرية