يتبدى “الوطن العربي” اليوم “أرخبيلاً من الأشقاء ـ الأعداء”، وهو الذي كنا نتمثله حلماً ونناضل من أجل تحقيقه واحدً موحداً بالوحدة بين أقطاره التي كانت فقيرة فضربتها الثروة الفاحشة من حيث لا تحتسب، وضربها الغرور فاستدرجتها مصالح الغير، البعيد والمعادي غالباً، فاذا هي “دول عظمى” تستكبر على أشقائها الفقراء وتتصاغر حتى الذوبان في “الكبار” من “أصحاب القرار الدولي”.
أن الخليج، بمملكته المن ذهب وإماراته الغنية، يتبدى أرخبيلاً من الخصومات والإشكالات والخلافات السياسية التي وصلت حد التلويح بالحرب فضلاً عن المقاطعة وحملات التشهير بين قطر وكل من السعودية والإمارات، في حين التزمت سلطنة عُمان حيادها التاريخي واستعدادها الدائم للعب دور الوسيط بين العرب والعرب، والعرب والفرس (ايران) وإجمالاً بين كل مختلفين!
ثم أن الأخوة الأغنياء قد ابتعدوا (حتى القطيعة أحياناً) عن الأخوة الفقراء.. بل أن هؤلاء الأخوة الأغنياء يتنافسون حتى الصدام في الأقطار التي اختفت دولها (مثل ليبيا) أو التي أعوزها الفقر (مثل السودان).
ويمكن أن تُروى حكايات مهينة عن محاولات بذلها الأخوة الأغنياء لإذلال دول كبرى وعريقة في التاريخ العربي الذي لم يعرف دويلات الذهب، استغلالاً لحاجتها إلى العملة الصعبة والنجدة الأخوية.. الاصعب!
طبيعي والحالة هذه أن يتهاوى “استقلال” العديد من هذه الدول التي لولا النفط والغاز لما كان لها مبرر وجود.
الأخطر أن “العروة الوثقى” بين هذه الدول، قديمها مما لها الشرعية التاريخية، والجغرافية والبشرية، وحديثها الطارئ والذي استولدته ثروة خرافية غير متوقعة ولم يتعب أهلها في بنائها، قد جرى تفكيكها وتباعدت أطرافها حتى العداوة (قطر ـ الإمارات، مثلاً)، في حين أن بعض هذه “الدول” قد تطاول فتناول بالسوء الدول ـ الأم مثل مصر وسوريا والعراق واليمن..
تباعد “العرب” عن بعضهم البعض حتى العداء أحياناً .. وحالف بعض دولهم المن غاز أعداء الأمة بعنوان فلسطين، مثل قطر ـ اسرائيل على الأشقاء العرب..
كذلك ذهب الأغنياء بنفطهم وغازهم إلى الولايات المتحدة الأميركية قافزين من فوق قضايا أمتهم وشعوبها وحقها في أرضها واستقلالها، والأخطر: حلم الوحدة، أو حتى التضامن تحت راية المؤسسة العجوز جامعة الدول العربية.
لقد أنكر عرب السلطة عروبتهم، ولا تنفع الكوفية والعقال والنسب الممتد عبر تاريخ السلطة في تمويه الحقيقة الجارحة، المتمثلة في العديد من المواقع والمواقف والتي بلغت أحياناً حد الإحتراب، أو تمويل وتسليح العصابات المسلحة ضد بعضهم البعض، تحت شعار طائفي أو مذهبي (سنة ضد شيعة أو علويين أو مسيحيين، ربما كانوا أكثر عراقة في عروبتهم أو في انتمائهم إلى الأرض العربية).
بل أن بعض هؤلاء قد تجاوزوا الأخلاق والانتماء القومي وصلات القربى فحالفوا العدو الإسرائيلي ضد اهلهم.
كما أن بعضهم الآخر قد تحالف (كما السعودية والإمارات) ليحارب أعرق شعب عربي وباني الحضارة الأولى في المشرق العربي، اليمن وجوعه وقصف مدنه وقراه، وتسبب في انتشار الكوليرا في أرجائه، تلتهم أطفاله والنساء.
***
الهاربون إلى العدو..
تفكك العرب حتى كادوا ينكرون أصولهم، وتنكروا لمصيرهم المشترك، وغلبوا النزعة الانفصالية على مصالحهم المشتركة، وهرب عرب الثروة من اخوتهم الفقراء، وضنوا عليهم بالمساعدة بينما هم يتيحون نهب أموالهم من طرف “الأصدقاء الكبار” بالعنوان الأميركي.
سقطت المعاهدات والمواثيق الجامعة، بما فيها المؤسسة العجوز (جامعة الدول العربية) التي أُفرغت من مضمونها وعطلت مهمتها، وتحولت إلى تكية للخطب الفارغة من المضمون، أو للعمليات الكيدية التي بلغت ذروتها “بطرد” عضو مؤسس لهذه الجامعة، هي دولة سوريا، منها.. وكانت الحملة بقيادة دويلة لا يساوي عدد سكانها سكان ضاحية من ضواحي دمشق العريقة أو حلب الشهباء..
بل أن دولاً عربية قد اسهمت في إشعال حروب ذات طابع طائفي أو مذهبي في دول عربية أخرى، وهو ما عجز عنه العدو الإسرائيلي فضلاً عن الاستعمار القديم… ثم أن بعض هذه الدول ذهب إلى التحالف مع “الإمبريالية الأميركية” ضد الأشقاء العرب.
ولطالما شهدنا الولايات المتحدة الأميركية تتدخل “كوسيط” بين الأشقاء العرب، وتستدعي قيادات دولهم إلى واشنطن لبذل “مساعيها الحميدة” التي لا تفعل غير تعزيز النفوذ الأميركي في دول المتخاصمين على حساب المصالح الوطنية والقومية.
وهكذا تحولت الدول العربية، تدريجياً، أقله بغالبيتها إلى “محميات” ففقدت هويتها ودورها (وثروتها أحياناً)، بل تحولت تدريجياً إلى معاداة أشقائها العرب، والإقتراب من العدو الإسرائيلي إلى حد “التحالف” معه تحت الراية الأميركية..
لقد غدا الوطن العربي، خلافاً لما كان في التصور والتمني، أرخبيلاً من الجزر المتخاصمة المتحاسدة، التي لا تحفظ كرامة بعضها بعضاً .. ويكفي أن نستذكر، هنا، حكاية احتجاز رئيس حكومة لبلد عربي في دولة عربية أخرى دعته سلطاتها الملكية فيها لرحلة صيد، فأبقي رهن الاعتقال حتى توسط لها رئيس دولة أوروبية (فرنسا) لإطلاق سراحه.
***
الثروة × العروبة!
عبر هذه التراجعات وإنكار الهوية والصدامات غير المبررة (لاسيما بين الأشقاء الأغنياء) تهاوت الروابط الجامعة، وأخطرها العروبة، والمصالح المشتركة، وتفرق العرب أشتاتاً، وتخاصموا، واستعدوا “الأغراب” على بعضهم البعض..
وللفرقة، في هذا الزمن تحديداً، نتائج خطيرة على العرب وقضاياهم ومصالحهم الحيوية، تكفي نظرة إلى ما أصاب القضية الفلسطينية، التي كانت ذات يوم مقدسة، والمعروضة الآن في بازار المزايدات والمناقصات، لنكتشف حجم التراجع العربي المهين.
لقد تجرأ الرئيس الأميركي الأرعن دونالد ترامب على اتخاذ القرار المهين للعرب والذي تردد أسلافه في تنفيذه، وهو الإعتراف بالقدس الغربية عاصمة للكيان الصهيوني والمباشرة بالعمل لنقل سفارة بلاده اليها، ضارباً عرض الحائط بالمواقف العربية (وبين أسباب ضعفها انها مواقف وليست موقفاً موحداً) وقرارات الشرعية الدولية ـ الأمم المتحدة ـ حول تقسيم فلسطين إلى دولتين (وهو ما كان يرفضه العرب حين كانوا أمة واحدة، وما كان يرفضه الفلسطينيون أنفسهم عندما كانوا ثوراً).. ثم أن إدارته باشرت الإجراءات العملية لنقل السفارة فاختارت فندقاً يقع على بعض تلال القدس المحتلة ليكون مقراً لها .. دون أن تلقي الإدارة الأميركية انتباهاً لمواقف الدول العربية (التي جاءت كالعادة، هذه الأيام) باردة وبلا تأثير عملي لأنها لا تعبر عن المواقف الفعلية، ومعظمها متواطئ مع الإدارة الأميركية، ومع العدو الإسرائيلي عبرها او مباشرة..
الجديد في هذا المجال أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي قررت، تمادياً في الإستهانة بالمواقف العربية ومشاعر الفلسطينيين وحقوقهم، اقامة منتزهات داخل القدس الشرقية، على حساب أهلها الذين كانوا دائماً أهلها..
***
لقد هان العرب على أنفسهم حتى ارتضوا الذل، وعادوا ـ بمعظمهم ـ إلى أحضان الاستعمار الجديد .. خانعين !
وكلنا نتذكر تظاهرات المليون جزائري وهم يهتفون في استقبال الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك خلال تجوله في ميادين الجزائر العاصمة: فيزا، فيزا، فيزا.
وكلنا نتابع أخبار هجرة النخبة العربية من مختلف أقطار “الوطن” العربي (مصر، لبنان، العراق فضلاً عن المهجرين السوريين والليبيين) إلى أقطار الغرب بعنوان أميركا، أو أي بلاد تقبلهم، ليعيشوا فيها، ولو بذل الحاجة وليبيعوا خبراتهم ومعارفهم إلى من كانوا في مرتبة العدو أو الخصم التاريخي..
أن العرب يعيشون أبأس أيامهم في ظل فرقتهم: ينكرون هويتهم أو يتنكرون لها، ويخاصمون بل يقاتلون بعضهم بعضاً، وينشق أغنياؤهم عن فقرائهم، ويصالح بعضهم العدو الإسرائيلي الذي كان عدو الجميع، فاذا به يتحول إلى “حليف” لبعضهم ضد البعض الآخر..
وآخر تجليات العدو الإسرائيلي تتمثل في الإعتداء المباشر والعلني على لبنان عبر الإدعاء أن الحقول التي يحتمل وجود النفط فيها والواقعة في مياهه الإقليمية إنما تخص كيان العدو الإسرائيلي وتتبع “مياهه الإقليمية”، وهي مغتصبة أصلاً، والإدعاء مزور وكاذب.
ولقد مر هذا التهديد الإسرائيلي وسط صمت عربي مريب.. فمن يجرء على مواجهة العدو الإسرائيلي ودفع عدوانه الجديد.
على أن لبنان، بدولته ومقاومته وشعبه، أعلن رفضه لهذا التهديد وللعدوان على مياهه الإقليمية..
وقديماً قيل: سنقاتل، سنقاتل، سنقاتل … وسنرد كيد العدو إلى نحره..
لكن هذه كلمات من زمن مضى، ولم يعد ثمة مجال لاستذكارها، فضلاً عن العمل بمنطقها.. أقله حتى إشعار آخر!
ينشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية” و”القدس” الفلسطينية