لم تعرف الصحافة اللبنانية فن الكاريكاتور، فعلياً، إلا في الستينات.
قبل ذلك كانت ثمة محاولات محدودة يلعب فيها رئيس التحرير، مع بعض معاونيه، دور المفكر ثم يستدعى الرسام خلي البال من السياسة غالباً لتحويل الإشارات شارحة الفكرة الساخرة إلى رسم، غالباً ما يستعان لتنفيذه بالقص واللصق من رسوم قديمة للشخصيات المعنية.
في دار الصياد كان خليل الأشقر يجسم أفكار سعيد فريحة بالرسم.
لكن الرسام الحقيقي، صاحب العقل السياسي والريشة الحساسة فكان جان مشعلاني، وقد أبدع لوحات ممتازة على امتداد نصف قرن، برغم غياب المتذوق سعيد فريحة وبعض أركان التحرير.
أما في “النهار” فقد لمعت رسوم بيار صادق بأفكار ميشال ابي جوده، غالباً، ومداخلات غسان تويني احياناً، قبل أن يظهر ارمان حمصي وستافرو جبرا وبعض الهواة.
وكالعادة، كانت هناك مدرستان: أوروبية، فرنسية أساساً، تأخذ عنها الصحف ذات التوجه الغربي، ومصرية تأخذ عنها الصحف عربية التوجه.
ولقد تسنى لي أن اعرف العشرات من رسامي الكاريكاتور في مصر، وهو فن رائده مصري من أصول ارمنية، ثم اندفع إلى غماره عشرات الفنانين المبدعين الذي كانت رسومهم أقوى تعبيراً وأخطر تأثيراً من خارج التقليد.
ولقد تولى المفكر المستنير الآتي من خارج الإطار المهني التقليدي، احمد بهاء الدين، الإشراف على إصدار مجلة مختلفة بروح الشباب فيها هي “صباح الخير”، يعاونه فتحي غانم، وتحت رعاية إحسان عبد القدوس ومن خلفه السيدة فاطمة اليوسف التي عرفت – ومعها مجلتها- باسم روز اليوسف، وهي – للمناسبة- متحدرة من طرابلس في لبنان.
فتح “بهاء” أبواب “صباح الخير” أمام الرسامين والهواة وأصحاب الأفكار المبتكرة، وكانوا بمجملهم من الشباب حملة الطموح إلى التغيير والذين يهجسون بما يخالف القواعد المعتمدة في الأدب والفن، وقد وجدوا في المجلة الجديدة متنفساً ومنبراً ممتازاً.
ولقد سمح لي ترددي على القاهرة أن انجح في بناء صداقة طالما اعتززت بها مع “بهاء”، ثم مع جيل كامل من هؤلاء المبدعين الذي نشروا الفرح عبر السخرية من التقليد والبيروقراطية و”التنبلة”، من بينهم: العظيم شعراً ورسماً وحيوية صلاح جاهين، ومضحك الثكالى بهجت عثمان الشهير بـ”بهاجيجو” الذي أبدع فناً عظيماً فمد كاريكاتوره الملحمي في ما بعد – على صفحتين في “المصور”، وأحمد حجازي الذي يرسم كشاعر وينتزع النكتة من قلب الواقع المأساوي، وجورج بهجوري الذي طاف في الدنيا ينثر الابتسامات وينقد المجتمعات بعنوان مصر، ثم ذلك الذي اخذ الثقافة والفلسفة والكثير من “النظر” إلى فن الكاريكاتور محيي الدين اللباد، من دون أن ننسى الهائم في دنياه صاحب الرؤية البعيدة رجائي، والعديد ممن تتلمذ على أيدي هؤلاء.
كانت “صباح الخير” فتحاً جديداً في الصحافة العربية، كمجلة شبابية فكراً ومضموناً، تنعش قراءها بالأفكار البكر والإبداع النابض حيوية وتجديداً.
ولقد كان من الطبيعي أن تنشأ صداقة متينة، على البعد، بين معظم هؤلاء وبين المبدع المفرد ناجي العلي، وكانت “السفير” هي الجسر ودار اللقاء، إذا ما تعذر السفر إلى القاهرة…أو قدوم “الأكثرية” إلى بيروت.
كلمة أخيرة: أن ذبول فن الكاريكاتور يعني، أول ما يعني، موت السياسة والشلل الفكري الذي تسببت به أنظمة القمع القائمة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.