مبهجة هي هذه التظاهرات والمسيرات الشعبية التي ملأت أيامنا بالفرح والأمل واحتمالات التغيير نحو الأفضل.
مبهجة لأنها أسقطت العديد من المقولات والافتراضات والوقائع التي استقرت في الأذهان كحقائق ثابتة، بل كبديهيات لا تقبل النقاش عن طبيعة هذا النظام الذي يلغي “الوطن” لحساب “الكيان”، ويلغي “الشعب” ليجعله مجموعة من الطوائف والمذاهب..
وهذا ما حول “الهبة” الى انتفاضة شعبية عارمة امتدت من أدنى لبنان الى أقصاه، تخففت خلالها الجماهير من ولاءاتها الطائفية والمذهبية كما من عصبياتها الحزبية، التي طالما قسمت اللبنانيين وجعلت من وحدتهم حلماً بعيد المنال ومن “كيانهم” السياسي بديلاً من الوطن.
والآن وبعد شهر من هذا الحراك الشعبي غير المسبوق، سواء بحشوده التي تلاقت في ساحات المدن والقرى، أو في المسيرة التي امتدت “من الحدود الى الحدود”، تضج آفاق الحراك بالأسئلة:
ـ الى أين من هنا؟ فالهبة ادت غرضها، خصوصاً وقد أكدت “ولادة شعب واحد في وطن واحد”، وغياب “كيان” الطوائف والمذاهب الذي يلغي الوطن.. ويعيد فتح الأبواب أمام القوى الدولية بالعنوان الأميركي التي ما تزال تصر على تثبيت المرفوض ورفض المطلوب، أي الطموح إيه.
ـ هل يمكن لهذه الجماهير البلا رأس، أي بلا قيادة جامعة، وبلا برنامج متوافق عليه، أن تنتصر على هذا النظام الطوائفي الذي “ركبته” الدول قبل قرن مضى مستولدة هذا “الكيان” الذي يقدم نفسه بديلاً من الوطن، ويقدم “الطوائف والمذاهب” بديلاً من “الشعب”، وهو قد وزع المناصب من رأس الهرم، الحكومة والمجلس النيابي، والمؤسسات والادارة العامة وفق قواعد طائفية ومذهبية مكرسة في الدستور والقوانين والغرف، بحيث ان أي مس بها ينذر بفتنة عمياء تذهب بوحدة اشعب وبدولته، من دون أن تهدد “الكيان”… لأن هذا الكيان الذي استولدته “الدلو” لتلغي به “الوطن”، ما زال قوياً لأنها تحرس استمراره وإدامته.
ـ هل يمكن لهذه الجماهير المحتشدة في الميادين والساحات أن تبلور برنامجاً سياسياً للتغيير، يحظى بالإجماع، ويصمد امام محاولات الفتنة، سواء منها المصنعة في الخارج، أو المزروعة داخل الحراك (كمثال وليس كدليل: بوسطة الثورة التي انطلقت من أقصى الشمال وعبرت طرابلس والبترون وجبيل، والتحق فيها من ساحات بيروت من يرغب، ثم توقفت أو أوقفت في صيدا، بعدما سدت طريقها الاتهامات بمعزل عن صحتها (التمويل والمصدر)، والاستهداف الفعلي، وجدية الانتماء للحراك أم ان ركابها ومحركيها يجتمعون في “N.G.OS.” (أي جمعية أو جمعيات تمولها السفارة الأميركية في بيروت..)
ـ ومع اطلاق السفير الأميركي الأسبق في بيروت جيفري فيلتمان تصريحه المكتوب بعناية تأكد المشككون من ان واشنطن تحضر لما بعد الحراك، مع التركيز على “التخريب” على دور “حزب الله”، ورسم خط السير الى المستقبل.. وهنا مقتطفات من هذا التصريح الملفت في توقيته كما في دلالاته:
لمن يعنيهم الأمر: مقتطفات من توجيهات جيفري فيلتمان
تساءل جيفري فلتمان عما ينتظر لبنان في المرحلة القادمة؟ وأجرى تحليلاً لتداعيات الاحتجاجات الحالية التي يشهدها لبنان هنا مقتطفات منها:
1 ـ لا يتعلق الأمر بالولايات المتحدة، وعلينا أن نتجنّب أي شيء قد يحوّل التركيز إلى الولايات المتحدة، لكن نتائج الاحتجاجات قد تؤثر سلباً أو إيجاباً في المصالح الأميركية. لذلك، أرحّب بشدة بتوجيه اهتمام الكونغرس إلى لبنان في لحظة يمكن أن تكون محورية في تاريخ البلاد.
2 ـ يُبرز تاريخ «حزب الله» والجماعات الإرهابية السنية بوضوح سبب اهتمامنا بالاستقرار اللبناني: استغلّت إيران الحرب الأهلية في لبنان، ما بعد الصراع الداخلي عام 2003 في العراق، والحروب الأهلية الأكثر حداثة في سوريا واليمن لخَلق جذور عميقة يصعب اقتلاعها.
وبرغم الإضطرابات التي تعانيها الديمقراطية اللبنانية، إلا أنّه لدينا مصالح في رؤية دولة عربية متوسطية، تتمتع بحرّيات مدنية مهمّة نسبياً، وتقاليد ديمقراطية، وتعايش متعدد الطوائف. مع صلاتهم الدولية القوية، يطمح معظم اللبنانيين إلى الارتباط سياسياً وثقافياً واقتصادياً ومالياً بالغرب التقليدي ـ أوروبا وأميركا الشمالية ـ أكثر من إيران أو روسيا أو الصين.
3 ـ لم يعد باستطاعة “حزب الله” أن يدّعي بمصداقية أنه “نظيف”، كذلك فان مشاركته في الحكومة المستقيلة الآن أضرّت بادّعائه بتقديم خدمات بشكل أكثر فعّالٍ من غيره. هبط “حزب الله” الآن، من حيث التصوّر العلني لدوره السياسي، إلى نفس كومة القمامة ذاتها التي هبطت إليها الأحزاب اللبنانية الأخرى المشكوك بأمرها.
هناك تقارب طبيعي بين معظم اللبنانيين، والغرب يمكن أن يعمل لصالحنا. لكنّ اللبنانيين، كمواطنين في بلد صغير وضعيف وفي منطقة خطرة، سيبحثون، بطريقة عقلانية، عن شركاء خارجيين يمكن الاعتماد عليهم. وعلى قدر ما يمكن للبنان أن يكون محبطاً و”محتاجاً” ومعقّداً، علينا أن نلعب اللعبة الطويلة وعدم السماح لإيران أو سوريا أو الصين أو روسيا باستغلال غيابنا.
4 ـ في أيار 2008، استولى “حزب الله” و”حركة أمل” على مساحات شاسعة من بيروت والمناطق المحيطة بها لعرقلة جهود الحكومة لتفكيك شبكة الاتصالات الآمنة الموازية لـ”حزب الله”. قُتل العشرات قبل أن يسيطر الجيش.
في حين لم يُبدِ “حزب الله” تبكيت الضمير بشأن القتل وحتى تجويع أعداد هائلة من المدنيين في سوريا، فأيّ محاولة لتكرار هجوم أيّار 2008 في لبنان ستبخِّر (ستنهي) ذريعة “المقاومة” المتقلصة أصلاً لدى “حزب الله”.
5 ـ حاولت الولايات المتحدة لسنوات دفع اللبنانيين إلى مواجهة حقيقة أنّ “حزب الله” وصواريخه تخلق خطر الحرب مع إسرائيل بدلاً من توفير الحماية من إسرائيل. قد توقظ ردات فعل “حزب الله” الخطابية والجسدية على المظاهرات الحالية مزيداً من اللبنانيين ـ بما فيهم الشيعة، وهو أمر أساسي لإضعاف شعبية “حزب الله” ـ على هذا الواقع القاتم.
تُضعف التظاهرات الحالية بشكل بنّاء الشراكة بين “حزب الله” و”التيار الوطني الحر”، وأصبح جبران باسيل الآن تجسيداً لِما يثير غضب المتظاهرين، في حين تعكس خطابات والد زوجته الرئاسية رؤية شخصٍ بعيد عن الواقع في لبنان. حتّى الآن، لا يزال “حزب الله” متمسّكاً بتحالفه مع التيار الوطني الحر، إلّا أنّ قيمة هذا التحالف انخفضت بشكلٍ ملحوظ وتزيد من خيبة الأمل العامة التي تتفاقم تجاه علامة “حزب الله” بشكل عام.
نحن بحاجة إلى التفكير على الأمد الطويل. بشكل عام، يَعي ضباط القوات المسلحة اللبنانية، الذين يحرصون على استقلالهم، مدى تحسُّن قدرات الجيش وكفاءاته المهنية بفضل التدريب الأميركي المستمرّ والمعدات الأميركية. كذلك، بدأ الشعب اللبناني يدرك ذلك أيضاً.
6 ـ لن يعود المستثمرون والسائحون بمبالغ كبيرة يمكن التنبؤ بها طالما أنّ حزب الله بإمكانه أن يقود لبنان إلى الحرب، من دون الإشارة إلى الرأي العام أو الرقابة الحكومية. فيتعيّن على اللبنانيين الاختيار ما بين الطريق المؤدي إلى الفقر الدائم أو الى ازدهار محتمل، وذلك من خلال تحديد ما إذا كانوا سيستمرون في قبول الخضوع تحت حكم رديء، إلى جانب الفيتو على القرارات الحكومية التي يصرّ عليها “حزب الله” (مع رفض أي مساءلة عامّة عن أفعال “حزب الله” في وقت واحد).
قد لا تؤدي الاحتجاجات إلى تغييرات فورية، لكن بدأت عملية بنّاءة عقب العثرات في خطابات نصرالله، لا بدّ من أنه يعيد النظر مع بعض القادة الآخرين الراهنين حول كيفية الحفاظ على صلاحياتهم بطريقة يرضون بها الشارع في الوقت نفسه.
7 ـ كخطوة أولى، يجب إرسال مساعدات عسكرية فورية. هذا من شأنه أن يضع الولايات المتحدة إلى جانب المؤسسات الوطنية ذات المصداقية. وبينما تزيد شعبية الجيش اللبناني مقارنة بما بتراجع في سمعة “حزب الله”، يمكننا تعزيز ما هو، بالنسبة إلينا وإلى لبنان، قوة دفع إيجابية. كذلك، هذه المساعدات العسكرية من شأنها إضعاف محاولات “حزب الله” وإيران وسوريا وروسيا المستمرة لجذب اللبنانيين إلى محاورهم من خلال التشكيك في مصداقية الولايات المتحدة.
مساعدتنا العسكرية لا تُقدّم من دون قيد أو شرط؛ إذ نستفيد أيضاً من الشراكة مع الجيش اللبناني. نتوقّع أن الجيش اللبناني قد يحسّن كفاءته وجهوزيّته التي تَجلّت بشكل واضح من خلال اتخاذ تدابير مكافحة الشغب الناجحة والاستجابة المناسبة على الاحتجاجات. يمكن للولايات المتحدة أن ترسل التمويل العسكري الأجنبي مع التشديد على أن يبقى الجيش اللبناني بعيداً عن السياسة وأن يُعامل المتظاهرين السلميين باحترام في كافة أنحاء البلاد، في النبطية وفي بيروت أيضاً.
8 ـ كما أقترح العثور على طرق لمنع انهيار لبنان مالياً وسياسياً (إلا إذا وَفّرت الفوضى والحرب الأهلية مجالاً أكبر لإيران وسوريا وروسيا للتدخل)، ولكن قدرتنا على تأمين الدعم المالي والاقتصادي تعتمد على قرارات اللبنانيين أنفسهم، من ضمنها تركيبة الحكومة اللبنانية المقبلة وسياساتها.
وطالما أنّ القرارات هي بيد اللبنانيين، الذين عاشوا لفترة طويلة مع تناقضات رغبتهم في التشبّه بالعالم الغربي فيما يوجد على أرضهم حزب ايراني إرهابي، يجب عليهم أن يفهموا تَبعات الطريق الذي يرغبون بسلوكه. في الأزمات المالية السابقة، حوّلت دول الخليج أموالاً بالعملة الصعبة مؤقتاً إلى المصرف المركزي اللبناني لرفع حجم الاحتياط، ويمكن تكرار ذلك.
يمكن هنا طرح بعض الأسئلة ومنها:
ـ هل كان موقف “حزب الله” المتحفظ من الحراك الشعبي المستمر منذ شهر ونيف، يهدف الى حماية هذا الحراك؟
ـ أم أن الحزب قد فوجئ بالحشد الذي تجاوز تقديراته، في حجة الذي تعاظم مع كل شمس جديدة، وكذلك تقديره لمدى صموده متماسكاً فضلاً عن تزايد الجماهير التي تتزايد يومياً، وقد احتشد فيها عشرات الآلاف من الشباب، صبايا الورد وفتية “لنا الغد”؟!
ـ أم أن الحزب كان محرجاً نتيجة تحالفه الثابت مع الرئيس ميشال عون، وحرصه على “عهده”، بغض النظر عما يوجه الى “الصهر” جبران باسيل من اتهامات، سواء بالسيطرة على “حميه” رئيس الجمهورية، واستطراداً على قرار الحكومات التي شارك فيها محتفظاً دائماً بحق الفيتو على أي قرار لا يخدم مصالحه وارتباطه.. مستقوياً بالمصاهرة الملكية كما بالمساندة المفتوحة من طرف “حزب الله”؟
ـ أم أن “حزب الله” كان يتحرك مدركاً مخاطر الفراغ الحكومي، ليس عليه وعلى سلاحه فحسب، بل على “العهد” جميعاً، وربما على لبنان كله، كياناً ومصيراً، في ظل التحولات التي شهدتها المنطقة (سوريا) وتشهدها (في العراق)، والتي اتخذت صورة أكثر اكتمالاً في إيران، ومن خلال تحريك الحساسيات المذهبية في الجنوب العربي ـ بعنوان “الاحتجاج على سياسة الإفقار”، في حين ان الهدف تحريض “الأقلية العربية السنية” على حكم آيات الله والثورة الاسلامية (الشيعية)؟!
ـ ومع التقدير للقاء الوطني الجامع الذي عقد يوم الاثنين الماضي في فندق الكومودور وتلاقي فيه أكثر من مائة من اهل الرأي والتجربة (حزبيين ومستقلين) فان كثيرين قد اعتبروا انه ربما يأتي متأخراً، بحيث يخشى أن تتجاوز الأحداث قبل اعداد “ماينفستو الثورة”، ثم ما يلزم لتنفيذه، ان على صعيد التنظيم أو القدرة على حماية الحشد، فضلاً عن مسائل تفصيلية تحتاج وقتاً وإمكانات مادية وخطة عمل تأخذ في الاعتبار امكانات هذا النظام وقدرات القوى الدولية التي تسانده على زرع الفتنة وافتعال المشكلات (وحتى الصدام) والغرق في مناقشة برنامج قد ينتظر الانتفاضة المقبلة.
وها هو تصريح فيلتمان، وهو الدبلوماسي العريق ولا يجوز الاستهانة لا بذكائه ولا بعلاقاته المتشعبة والوثيقة مع العديد من القوى في لبنان (سياسية وفئوية، ورجال دين، وجمعيات وهيئات تحمل الطابع الاجتماعي الخ).
ان جيفري فيلتمان الذي أمضى سنوات طويلة في لبنان (بين سنة 2004 ـ 2008) والذي يعرف أكثر مما يجب من رجال السياسة والأحزاب والاجتماع والأعمال، داخل الأحزاب وخارجها، والذي يدرك حقيقة الأوضاع الاقتصادية المأزومة التي يعيشها اللبنانيون هذه الأيام، في ظل مخاوفهم من الغد الأسوأ، قد وضع وطرح علناً برنامجاً شبه متكامل للثورة المضادة، من دون ان ينسى التحريض على “حزب الله” بما يمكن استخدامه لمن يسعى الى تحويل الانتفاضة الى ما يشبه الحرب الأهلية..
خصوصاً وأن الدولة، بمواقع فيها شبه مشلولة، كونها قد فوجئت بهذا الحراك وثباته في الساحات والميادين طوال شهر.. ختامه عيد استقلال الدولة التي تبحث عنها فلا تجدها الجماهير التي يملأ هديرها الآفاق.