تغمر الدماء وجه غزة التي ما أن تفرغ من تشييع ثلة من شهدائها حتى يعود فتيتها إلى مواقعهم عند الحد الذي يفصلهم بالحديد والنار عن سائر اهلهم في وطنهم فلسطين..
يوما بعد يوم يتناقص اعداد “الاخوة العرب” ممن يتابعون أخبار فلسطين عموماً وغزة خصوصاً..منهم يدارون عجزهم بالامتناع عن سماع نشرات الاخبار فان هم سمعوها هزوا رؤوسهم بوجع، وبسملوا وحوقلوا واحالوا الامر إلى الله عز وجل..
الجزيرة العربية بعيدة جداً، ودولها مشغولة بما هو أهم من غزة وفلسطين، فهي تمر بمرحلة دقيقة: تسلم تسليم في دولة العرش الكبرى، وانهاء تمرد الشقيق الاصغر والذي جعله الغاز الاغنى، تمهيداً للمواجهة العظمى مع بلاد فارس بقيادة “الملالي” التي تعيث في الارض فساداً، بعنوان اليمن، وتمد أذرعتها عبر العراق إلى سوريا التي باتت اشبه بقاعدة لها، ومنها إلى لبنان و”التحرش” بإسرائيل وترفع شعارات فلسطين لإيهام العرب والمسلمين بأنها الأحرص والأولى بتحرير القدس..
أما العراق المثخن بجراحه ففي حاجة إلى من ينجده وينقذه من الفتنة التي يكافح العراقيون لوأدها فتجد من ينفخ في جمرها المتبقي من عهد صدام والذي تراكم خلال تجارب بل مغامرات السياسيين العائدين من المنافي ممتلئين بالأحقاد والرغبة في الانتقام التي تتفاقم متخذة سياقاً مذهبياً ينذر بالتفجر وتدمير ما تبقى من دولة العراق وشعبها.
فأما سوريا فالحرب فيها وعليها مستمرة، وان كانت المساحة التي تحتلها العصابات المسلحة تتناقص، فتستعيد دمشق ضواحيها التي كان المسلحون فيها يهددون امن الناس فيها، ثم اضطروا إلى الخروج منها باتجاه ادلب في الشمال، او باتجاه دير الزور حيث قرر الاميركيون أن ينشئوا فيها قاعدة عسكرية بذريعة مطاردة “داعش”.. وهكذا اتصلوا بالأتراك في الشمال، ادلب وجوارها، وتوافقوا على تقاسم الشرق حتى تصادموا مع النظام والروس من خلفه..
وفي حين أخطرت دمشق مواطنيها الغائبين بأن يثبتوا حضورهم لتأكيد حقوقهم في املاكهم، خلال مهلة قصيرة، فان اصواتاً عالية ارتفعت في لبنان متخوفة من أن يدفع هذا الإخطار الكثير من السوريين إلى اختيار البقاء حيث هم، في لبنان، لتعذر تلبية شروطه خلال المهلة المحدودة المعطاة لهم، مما يزيد في تعقيد موضوع وجود النازحين السوريين في لبنان، والذين تتراوح اعدادهم بين مليون نصف ومليوني نسمة.. علماً انه كان يتواجد في لبنان حتى في أيام السلم في سوريا، أكثر من مليون سوري يعملون اساساً في الزراعة (التي نسيها اللبنانيون) او في اعمال البناء كما في الفنادق والمقاهي والمطاعم… وهم قد تقدموا فتملكوا او استأجروا بعضها.
فأما فلسطين فسلطتها في رام الله في حالة موت سريري، وغزة تتصرف وكأنها متروكة لمصيرها في مواجهة الوحش الاسرائيلي الذي فتك جنوده خلال الايام القليلة الماضية بأكثر من مائتين وخمسين شاباً وأسقطوا أكثر من الفي جريح ستترك الاصابات في اجسادهم تشوهات دائمة، خصوصاً وان الرصاص المستخدم به كمية من السموم تجعل الشفاء مستحيلاً.
ولقد اكدت الولايات المتحدة الاميركية موقفها العدائي من هذه القضية المقدسة بوقوفها في مجلس الامن، مستقوية بحق الفيتو ضد قرار قدمته الكويت لإدانة العدوان.. وهو موقف يأتي في اعقاب قرار ترامب بنقل السفارة الاميركية من تل ابيب إلى القدس المحتلة..
وحسنا فعلت الحكومة المصرية بفتح المعابر بين غزة ومصر طيلة شهر رمضان المبارك، مما قد يخفف، ولو قليلاً، من اعباء معالجة المصابين، ثم قد يسمح بكسر الحصار الاسرائيلي المفروض على غزة، وادخال الادوية وبعض المؤن إلى اهلها التي عزت نجدتهم على اخوانهم العرب البالغة اعدادهم أكثر من اربعمائة مليون مواطن.
لا داعي للتذكير بأن ليبيا ارض مشاع، لا دولة فيها ولا احتمال قريبا بعودة دولتها اليها، وان كان البعض يعقد شيئا من الامل على التحرك الفرنسي الذي نجح في جمع اشتات المعارضة، في محاولة للتفاهم على صيغة لاستعادة مشروع دولة ستحتاج جهودا خارقة لإعادتها إلى الوجود ومن ثم إلى رعاية شعبها الموزع الآن بين دويلات شتى.
تونس تعيش فترة قلقة بعد اضطراب العلاقة بين القوى السياسية الاساسية، لا هي تريد الرجوع إلى الماضي، ولا تقدر عليه، كما انها تعجز عن حسم وضع الحكم فيها بما يمكنه من التقدم لصنع المستقبل في ظل مناخ من الوفاق الوطني..
في هذا الوقت تفيد فرنسا من حالة الاضطراب السائدة لانعاش نفوذها في هذه الدولة التي انتبه شعبها إلى أن ماضيه السياسي كان اكثر امانا من حاضره، وربما من مستقبله.
تبقى الجزائر والمغرب والمناخ ينذر بتجدد الاشتباك حول الصحراء الغربية، وفي أي حال فان نجدة فلسطين فيهما تنحصر في التظاهر تأييداً لشعبها، ثم في ارسال بعض المساعدات الطبية والادوية للجرحى..
*****
من قبل وعلى امتداد نصف قرن او يزيد، كانت فلسطين هي المشعل وهي المقصد وهي حداء الثورة التي سرعان ما تفجرت في سوريا ثم في مصر وبعدها العراق ولبنان وصولاً إلى اليمن..
اليوم تبدو فلسطين يتيمة على المستوى الشعبي، لا اهل لها ولا نصير، اللهم في بعض دول الغرب..
أما على المستوى الرسمي فمعظم الدول العربية، لا سيما في الجزيرة والخليج، تمهد للاعتراف بالكيان الاسرائيلي، رسمياً او عمليا، سواء تحت الضغط الاميركي وأما ممالأة لإدارة ترامب والسبق إلى ارضائها من قبل أن تطلب.
لقد صارت اسرائيل هي الولايات المتحدة الاميركية، او هكذا يريد الرئيس الاميركي ترامب من العرب أن يفهموا: فهو من اتخذ القرار بنقل السفارة الاميركية من تل ابيب إلى تلة تشرف على كامل القدس المحتلة.. ثم انه من اعتذر في آخر لحظة عن المجيء إلى اسرائيل للمشاركة في احتفالها بإقامته على ارض شعب فلسطين بالقوة القاهرة (والغفلة العربية) قبل سبعين عاماً.. قبل أن يوفد ابنته وصهره ليشهدا “الاحتفال التاريخي”.
وها هو شعب فلسطين لا يجد اليوم معيناً ونصيراً في مواجهة تهويد بلاده بالمستوطنات المسلحة، ولا من يرد عنه العدوان الاسرائيلي المفتوح او يعينه على مواجهته.. خصوصاً وانه لا يملك من السلاح الا دمه..
إن غزة المحاصرة لا تجد من ينجدها.. وعندما حاول اهلها الخروج بتظاهرة بحرية عبر بعض السفن الصغيرة، تصدى لها جيش الاحتلال بالقصف واعتقال المتظاهرين وسفنهم، بل مراكبهم غير المسلحة.
*****
لا يمكن التسليم بهذا الامر الواقع وكأنه نهاية المطاف، والتسليم بأن فلسطين قد سقطت نهائياً في أيدي الوحش الاسرائيلي، وليس على العرب الا الرضوخ للأمر الواقع، ونسيان خريطة اوطانهم ودماء شهدائهم وارامل من قضوا في الحروب والاعتداءات الاسرائيلية المتكررة.
إن مسح فلسطين عن الخريطة العربية يعني تغيير التاريخ والجغرافيا والمصير للامة العربية جمعاء.
والدفاع عن فلسطين، والتمسك بها كقضية مقدسة، هو تمسك بالهوية ومستقبل السيادة والاستقلال والكرامة.
إن الارض هي الشرف، وهي موضع العزة، وهي مصدر الحرية.
ولقد دفعت الامة العربية، بأقطارها المختلفة، ملايين الشهداء من اجل استعادة قرارها وحقها في أن تقرر مستقبلها بإرادتها.
…وهي لن تتخلى، بأجيالها الجديدة، عن هذا الحق..
تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية