طلال سلمان

عمرو موسى حسابات ربح خسارة

… وفي اليوم الأول من السنة الثالثة والخمسين لنكبة فلسطين، التي اصطنعت للعرب عموماً، وللمصريين على وجه الخصوص، تاريخهم الحديث، بإنجازاته والإخفاقات، تولى عمرو موسى مهامه الجديدة كأمين عام لجامعة الدول العربية، تاركاً »موقعه« في وزارة الخارجية المصرية، ليكون خليفة لسلفه هنا وهناك الدكتور عصمت عبد المجيد.
وبرغم أن الحال هي غير الحال، والدنيا غير الدنيا، فإن كل ما في قرار »النقل« كثيف بدلالاته الرمزية: من توقيته في هذه اللحظة السياسية الحرجة، إلى طبيعة »الدور المشاغب« الذي كان يلعبه عمرو موسى في موقعه وحجم الشكاوى الإسرائيلية والأميركية من تأثيراته، وطبيعة الموقع الذي انتقل إليه والملابسات التي أحاطت بالموافقات العربية على اختياره، ثم »الظروف المحيطة« سواء داخل مصر، أو داخل »القضية« التي استبقت الجامعة ولو معطلة، فلسطين، وإسرائيل التي كلما زاد اندفاع سلاطين العرب إلى مصالحتها على حساب حقوقهم الوطنية، اندفعت إلى إذلالهم بالحرب التي لا يقدرون عليها وبتشوقهم إلى سلامها المستحيل.
فبرغم الجهد الذي بذله الشاذلي القليبي لاستبقاء الجامعة على قيد الحياة، ولو كلاجئ سياسي في تونس، والذي بذله عصمت عبد المجيد لاستعادة دورها المفتقد، ولو محدوداً، فقد بقيت الجامعة شاهداً على العجز العربي عن القرار… بل هي عادت إلى القاهرة وقد قبلت ما طرأ على سياستها الرسمية من تغيير جذري بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد التي شطبت اللاءات الشهيرة، فأقرت التفاوض والصلح والاعتراف بإسرائيل، وبشروطها، إلى حد كبير.
ولعل »خروج« عمرو موسى، في حالات محدودة، ولو شكلاً، قد أبرزه وكأنه »معارض« في قلب النظام المصري، وهذا ما لا يقدر عليه »وزير«، أو »معترض« باسم النظام أو معبّر عن موقفه الضمني المفترض الذي لا يستطيع إشهاره، وهذا ما لم يسع إليه النظام، فضلاً عن أنه لا يقدر عليه ولا هو يريد حتى المحاولة بل المخاطرة فيه.
ولقد نظمت في عمرو موسى، المعارض، الأغاني، ورُفعت صوره في بعض مواقع الاجتماع الشعبي، كالمقاهي، مع الوعي الكامل بأنه لا يقدر على المعارضة.. لكن مجرد ظهوره وكأنه »موافق بالاضطرار« كان يكفي لإضفاء ملامح البطل (المفتقد) عليه، والتناسي أنه »موظف« يعبر عن الموقف الرسمي فإن هو خرج عنه أعيد إلى الانضباط بسرعة، وبقدر كبير من الإحراج.
كان ارتفاع صوت بالاعتراض، من قلب مصر، ومن نظامها بالتحديد، في منزلة التمني… ولهذا أخرج الناس عمرو موسى من قالب »الوزير« وأضفوا عليه من تمنياتهم هالة »زعيم شعبي« لا يسمح بها واقع الحال.
ولعل هذه المميزات هي بين ما جعل كثيرا من العرب، والمصريين بخاصة، يستقبلون ترشيح عمرو موسى لأمانة الجامعة وكأنه »نقل تأديبي«، أو خضوع لضغط إسرائيلي تعاظم بالإسناد الأميركي حتى باتت مواجهته متعذرة فاختيرت له »مكافأة« تحفظ الكرامة الشخصية ولكنها تبطل تأثيره السياسي المباشر.
* * *
في أي حال فوزارة الخارجية في مصر أقدر على الحركة والتأثير من الأمانة العامة للجامعة، وهامشها أوسع، حتى في إسار المعاهدات واتفاق الصلح المنفرد.
طبعاً هذه إدانة صريحة للنظام العربي، عموماً، أكثر مما هي تزكية للخارجية المصرية.
لقد تعدى الأمر نطاق »سيروا بخطى أضعفكم« إلى التلطي وراء »الكبير متى أخطأ«، لأن الآخرين »يرغبون« بشرعنة الخطأ ليمكنهم من ثم التظلل بكبيرهم.
ولعل هذا الواقع بين الأسباب الكامنة »لتفجرات« عمرو موسى المدروسة، والتي كانت تساهم في فضح حجم الخطأ عربياً، بقدر ما تشير إلى »الكوابح« التي تضبط حركة الخارجية المصرية.
والحقيقة أن مهمة عمرو موسى لم تكن مستحيلة في الخارجية حين تولاها، لا سيما في مجال الحفاظ على مسافة بينها وبين »التطبيع الكامل« للعلاقات مع إسرائيل.
بل أن وزارة الخارجية المصرية شكلت في لحظة الذروة من الاندفاع الساداتي نحو الصلح مع إسرائيل بشروط وجدها »الكادر« غير منصفة، بل مذلة، طليعة الاعتراض، إن لم نقل المقاومة، لهذا »التفريط«، بمعنى إسقاط أو التخلي عن المشروع الوطني المصري، فضلاً عن المشروع القومي، والانكفاء إلى الصمت أو الامتناع عن مقاومة مشروع السيطرة الصهيونية على المنطقة في ظل الهيمنة الأميركية المطلقة.
والكل يشهد بأن الدبلوماسيين المصريين خاضوا، وضمن إمكاناتهم المحدودة، معركة شرسة ومشرفة، ضد تسلط السادات كما ضد الضغوط الأميركية، ومن ثم الإسرائيلية لكي يحفظوا لمصر (ودبلوماسيتها) كرامتها والحد الأدنى من شروط سلامتها الوطنية، وبالتالي دورها العربي. وتساقط وزراء الخارجية المصرية في كمب ديفيد شاهد لا يموت.
وكانت فلسطين حاضرة باستمرار، ومؤثرة، في الخارجية المصرية، بل لعلها في لحظة باتت الموجّه للسلوك الوطني المصري.
أما في جامعة الدول العربية فإن وضع عمرو موسى سيكون أصعب بما لا يقاس من مهمته السهلة نسبياً في الخارجية المصرية.
لا يتصل ذلك فقط بالأوضاع الذاتية لهذه المؤسسة العريقة التي تصرف العرب ويتصرفون وكأنهم في غنى عنها، بل هو يتصل أساساً بالأوضاع العربية التي عكست سلبياتها القاتلة على المؤسسة الجامعة فجعلتها رمزاً للضعف والعجز عن القرار وتغليب الشكل على المضمون، حتى لا ينفض الجمع وينهار البناء.
ومنذ زمن بعيد صارت الجامعة »مستودعاً« لكبار الموظفين الذين يريد هذا النظام أو ذاك التخلص منهم بهدوء، أو تكريم آخرتهم براتب تقاعدي محترم، وبيت أنيق في عاصمة جميلة، يرتاح فيه »النافذون« إذا ما نزلوا في عاصمة المعز.
ثم إن الجامعة تعكس حال دولها.
فلا هي سلطة قرار، وليس لها أداة تنفيذية.
إنها مركز توافق، وفي الشكل غالباً، بين مختلفين في السياسة والأهداف والمناهج.
* * *
يصل عمرو موسى إلى موقعه الجديد والمنطقة تعيش حرباً بل حروباً مفروضة عليها.
ولسوف يصل مسبوقاً بملاحظات أميركية لها صدى عربي، بعضها كان قاسياً… ولعل بعض »زملائه« العرب سيحاولون محاصرته غداً حتى لا يحرجهم »بتهوّره«، وخصوصاً أن بعضهم يعتبر أن هذا »التهوّر« هو سبب »إبعاده« عن خارجية الرئيس حسني مبارك، الميال بطبعه إلى تجنّب المعارك.
وليس معروفاً إن كان »ترحيب« إسرائيل بخلاصها منه في الخارجية المصرية سيكون أكثر من »انزعاجها« من تسميته أميناً عاماً للجامعة… قيد الترميم، في الحال وفي الاستقبال.
وإذا كان المعجبون بعمرو موسى قد رحبوا بخلفه السفير المتقاعد أحمد ماهر، فرأوا فيه أفضل خيار ممكن من بين من كانت التقديرات قد رشحتهم للمنصب، فإن ذلك لم يسقط أسباب أسفهم لغياب هذا الرجل الذي أعطى النظام المصري وجهاً حسناً وعبّر عن نية الاعتراض فيه.
ومؤكد أن أحمد ماهر سيحتاج إلى فترة امتحان جدي قبل أن يعوّض خسارة هذا الوجه العربي المتميّز في النظام المصري.
* * *
إن الحرب على العرب، في جامعتهم، وفي كل عاصمة من عواصم ديارهم الكثيرة، مفتوحة.
ولن يستطيعوا الاستمرار في الهرب من ميدانها مهما حاولوا، فنارها ستصل إليهم حيث هم… بل لعلها ستطال أول ما تطال أولئك الذين افترضوا أن الصلح المنفرد هو الطريق إلى السلام والاستقرار والازدهار الاقتصادي.
وها هي فلسطين تنثر دماءها عليهم جميعاً، في المشرق والمغرب، فتحرج الأنظمة أمام شعوبها، وخصوصاً أن »الصديق الأميركي« يدير وجهه إلى الناحية الأخرى تاركاً لآلة الحرب الإسرائيلية أن تسحق روح التمرد في الأمة كلها، وليس في فلسطين وحدها.
وعمرو موسى قد انتقل من موقع إلى موقع، لكنه لن يستطيع أن يخلع بزة »المحارب«، فعسى أن يمكّنه العرب من الاستمرار فيه بأكثر مما مكّنه نظامه.

Exit mobile version