غزة تغرق في دمائها… وإسرائيل تتوعدها بالمحرقة!
مذبحة إسرائيلية مفتوحة في غزة: أكثر من مئة شهيد، بينهم عشرات الأطفال، ومئات الجرحى!
إسرائيل: قاتلة الأطفال… وطيرانها الحربي يطارد الأجنة!
هذه بعض العناوين التي تصدرت عدداً من الصحف العربية أو قدمت بها بعض الفضائيات العربية لأخبار المذبحة، وقد اضطرت إليها اضطراراً ولأسباب عاطفية ومداراة لغضبة الجمهور.
أما الحقيقة فهي أن غزة تغرق في دماء أبنائها، فعلاً، أطفالاً وفتية وشباناً وكهولاً وشيوخاً، مجللة بالصمت العربي الرسمي الذي يكشف التواطؤ أكثر مما يكشف العجز…
وبالمقابل فإن قصائد الحزن الشعبي يغلب فيها الرثاء على طلب النجدة (التي لا يعرف أحد ممن يطلبها…) بينما تغرق الحماسة في بحر من اليأس بلا ضفاف.
فالنظام العربي الرسمي، مع استثناءات محدودة، يكاد يحمِّل حماس المسؤولية عن المذبحة، لأنه يحاكم الحدث بموقفه السياسي من هذه الحركة التي كانت حتى الأمس شريكة شرعية في السلطة بقوة فوزها في الانتخابات، ديموقراطياً… أو بذريعة إطلاق بعض الصواريخ على جيش الاحتلال رداً على اغتيالاته اليومية، وبالطيران أو بمدافع الدبابات، للأهالي والمؤسسات، فضلاً عن حصاره المحكم والمستمر على هذه القطعة من فلسطين المفصولة بالقهر عن الضفة الغربية، المدمّر مطارها اليتيم، والمقفل بالأمر بحرها حتى في وجه الصيادين، والممنوع إدخال المواد التموينية والنفط ومشتقاته إليها، والمحظور وصول الأدوية والأمصال إلى مستشفياتها التي يهجرها أطباؤها حتى لا ينتحروا فيها بسبب عجزهم عن إنقاذ إخوتهم الجرحى… وأما معبرها اليتيم إلى مصر فمقفل حتى لا تنفتح على المحروسة أبواب جهنم الإسرائيلية!… والدولية!
غزة من قبل الحرب الإسرائيلية الجديدة عليها، تعيش في كرنتينا وكأنها وباء… تتنصل السلطة من مسؤوليتها عنها بذريعة انقلاب حماس، وتتبرأ الدول العربية من أهلها العصاة حتى يعودوا إلى حظيرة الشرعية… وبالاستناد إلى هذين التبريرين الشرعيين تدير دول العالم وجوهها عن مأساتها غير المسبوقة حتى لا تشهد الموت الجماعي البطيء في ظل الحصار بآثاره الوحشية حتى من قبل أن تبدأ المذبحة الإسرائيلية قبل أربعة أيام، والتي أعاد أولمرت، أمس، تأكيد الاستمرار فيها حتى النهاية… مطمئناً إلى تهافت ردود الفعل العربية، وخصوصاً أن الإدارة الأميركية طرف أساسي، وفي موقع الآمر… فمن يجرؤ على تحدي من لا يقبل التحدي؟!
لكأن غزة كوكب آخر، في مدار فضائي أوله في تل أبيب وآخره في واشنطن،
لكأن غزة ليست فلسطين،
وكأن فلسطين جميعاً، وغزة منها، ليست من العرب،
وكأن طوفان الدم الذي يغمر أرضها ويملأ الشاشات بمواكب التشييع المتعجل في الفترة الفاصلة بين غارتين، أو بين هجومين بالدبابات، لا يعني أحداً غير أهلها المتروكين لمصيرهم… تأديباً لمن يخرج على مبادرات السلام الذي لا يتعب النظام العربي من عرضه، وفي كل مرة بتنازلات أفدح من سابقاتها، ولا تتعب إسرائيل من رفضه، وتواصل مع المذابح الجماعية بناء المزيد من المستعمرات الاستيطانية، وفي قلب القدس العربية ومن حولها، وتستمر في بناء جدار الفصل العنصري تلتهم المزيد مما تبقى من الأرض في أيدي أهلها الفلسطينيين!
كأنما لم يعد الدم العربي لينفع في توحيد الموقف العربي…
بل إن الدم العربي بات يفصل أحياناً بين العربي والعربي…
الأكثر مأساوية أن الدم العربي لم يعد يكفي لتوحيد الموقف داخل البلد العربي ذاته… بل لعل الدم، وفي مواجهة إسرائيل بالذات، أو في مواجهة الاحتلال الأميركي في العراق، بات يشكل فاصلاً أو سبباً إضافياً للفرقة والتباعد والتخاصم والتقاطع وتعدد الانحيازات بين العرب والعرب.
وبشهادة الحرب الإسرائيلية على لبنان، قبل عشرين شهراً، فإن دماء المواطنين، أطفالاً ونساءً ورجالاً، لم توحّد اللبنانيين، لأن الخلاف السياسي بينهم بكل ما يتضمنه من عوامل ضغط خارجي تجاوز حدود المواطنة والانتماء إلى وطن واحد . بل إن هذا الخلاف المثقل بالضغوط الخارجية، عربية ودولية، أي أميركية أساساً، كاد في لحظة معينة يقسم اللبنانيين حول هوية العدو الذي كان واحداً حتى وهو يتضمن، مع إسرائيل، الإدارة الأميركية ومن معها من أهل النظام العربي والغرب، بأكثريته… بدل أن يوحّدهم من حول مجاهدي المقاومة وصمودهم العظيم، في ظل مساندة الأكثرية المطلقة من الشعب اللبناني وتضامنه المطلق مع الذين أجبرتهم الحرب الإسرائيلية على مغادرة مدنهم وقراهم المهدمة بغارات الطيران والقصف المدفعي… ولو إلى حين.
لقد نجح العدو في اختراق العرب، وفي تحييد الغالبية العظمى من حكامهم، بعدما حقق فوزه التاريخي، ولأسباب موضوعية، في أن يصير الغرب كله بقيادته الأميركية.
صارت المواجهة مع إسرائيل، حتى في غزة تحت الحصار القاتل، مواجهة مع معظم العالم الغربي، ودائماً بالقيادة الأميركية.
وصار النظام العربي أكثر اطمئناناً إلى ضعف بل تهافت رد فعل الشارع الذي دُجِّن وعُقِّم وجُزّئ واستعدي بعضه على البعض الآخر، بالقمع المنظم، أو بالقمع المذهب، أو بما هو أخطر: بتحريك نار الفتنة بين أبناء الشعب الواحد، تحت راية الطائفية أو المذهبية أو العنصرية أو كل هذه الأمراض مجتمعة…
وعلينا ألا ننسى أن معظم الوطن العربي الكبير يقبع تحت الاحتلال الأجنبي، ظاهراً كما في العراق تحت الاحتلال الأميركي، وفلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي، أما بقية الأقطار فيمكن التعرف إليها عبر جولة جورج بوش الأخيرة في المنطقة ومظاهر الحفاوة المنقطعة النظير التي قوبل بها… والتي كانت أبرز فقراتها تدريبه على رقصة العرضة، وهي من العروبة في الصميم!
وغداً حين يلتقي وزراء الخارجية العرب في القاهرة، فإن خلافاتهم التي باتت تحاصر مؤسستهم الجامعة اليتيمة، وتجعلها خارج دائرة الفعل، ستمنع عليهم الاتفاق على أية خطوات عملية لنجدة غزة.
أما حين يلتقي القادة العرب في قمة دمشق العتيدة، والتي تطوقها الخلافات الحادة، فإن النتائج التي ستنتهي إليها ستظل دون التوقع (ولا نقول الأمل)، قياساً إلى طوفان الدماء في غزة، المرشح لأن يتواصل… فالهجمات ستتواصل دون هوادة، ونحن نرفض الانتقادات، وليس من حق أحد أن يقدم لنا المواعظ على حد ما قال، أمس، رئيس الحكومة الإسرائيلية.
***
غزة تغرق في دماء أطفالها ورجالها…
وخلافات النظام العربي بلغت حداً خطيراً صار ضرورياً معه فحص هذه الدماء، لمعرفة هل هي للمعارضين والمتمردين الخارجين على الإجماع الرسمي، أم هي للمناصرين المغلوبين على أمرهم، والذين اضطرت إسرائيل إلى تأديبهم حماية لأمنها؟!
ولسوف يتواصل طوفان الدماء في فلسطين، حتى لو أوقفت إسرائيل عملياتها الحربية ليوم أو بضعة أيام حتى لا تحرج أصدقاءها العرب، ومناصريها في العالم… الذين يتمنون مثلها لو أن البحر يبتلع غزة!
المسألة ليست في غزة، وحدها…
المسألة في الحالة العربية التي تتهدد الجميع في مصيرهم،
وهي حالة من اليأس المعتق، تحتاج إلى حضور الشعب حيث يتوجب حضوره، متجاوزاً محاولات إشغاله بذاته، ولو أدى ذلك إلى الحرب الأهلية…
والانتصار على خطر مثل هذه الحرب الكريهة أول الطريق إلى التغيير المنشود!