ربّما كُنت من الكُتّاب الفِلسطينيين والعرب القلائل الذين لم يعملوا ولم يكتبوا في صحيفة «السفير» التي أسّسها ورأس تحريرها الصّديق الزميل طلال سلمان. مع ذلك، ربطتنا صداقةٌ قويّةٌ لما يَقرُب من الثلاثين عاماً، كُنت خِلالها وطِوالها، أعتبر نفسي من المُنتمين سياسيّاً وفكريّاً إلى هذا الصّرح العمليّ المهنيّ العِملاق.
عندما أصدر طلال سلمان صحيفة «السفير» لتكون صوتاً للفُقراء والعروبيّين والثوريين عام 1974، كسر احتِكار «الصحافة العائليّة»، ورجال الأعمال، وواجهات الدول في الصّحافة العربيّة، ونقل الصّحافة الثوريّة من الأيديولوجيّات الصّاخبة إلى الصّحافة المهنيّة، والآراء المُؤثّرة الأقرب إلى الموضوعيّة، ولكن من دُون أن تفقد نكهتها الجاذبة للقارئ. ومن خلال هذه «الخلطة» المُتميّزة، استطاعت صحيفة «السفير» تحت قيادته أن تحتلّ مكانتها في الصّف الأوّل من الإعلام العربيّ، وفي فترةٍ زمنيّةٍ تُجسّد طُموحات قوميّة كبيرة في مُواجهة المشروع الغربيّ الاستعماريّ.
فِلسطين كانت الهمّ الأكبر، وربّما الوحيد للأستاذ طلال سلمان، وكان يُؤمن بتحرير كُل فِلسطين، ولهذا جعل من «السفير» الصّحيفة الأولى لهذه القضيّة، من خِلال احتِضانِ نُخبةٍ من كُتّابها ومُثقّفيها كانت موهبتهم أكبر وأعمق من صحافة الثورة الفِلسطينيّة وفصائلها المُتعدّدة. طلال سلمان لم يكن طائفيّاً، بل كان عابراً لكُلّ الطّوائف والأديان، قاوم كُلّ الضّغوط والمُغريات لحَرفِه عن هذا الإيمان العميق المُتجذّر، واستمرّت هذه المُقاومة حتّى النّفَس الأخير في حياة صحيفة «السفير». اختار قرار الإغلاق المُؤلم، على أن يلجأ إلى موائِدِ اللّئام، وكان قراراً شُجاعاً من رجلٍ لم يُطأطِئ رأسهُ مُطلقاً.
***
لم أعش في بيروت في ذروةِ احتِضانها للثورات واليسار العربي، ومرحلة اللّجوء للثورة العربيّة عندما جرى إغلاق مُعظم الأبواب في وجهها، وأذكر أنّ مُضيفة «طيران الشّرق الأوسط» سألتني عن بلدي وأنا أتوجّه إليها (بيروت) للمرّة الأولى في بداية التّسعينيات، فأجبتها: «فِلسطيني لاجِئ». تغيّرت ملامح وجهها وقتها، فطمأنتها مازِحاً بالقول «ربّما أنا الفِلسطيني الوحيد الذي لم يحتلّ لبنان»، ولم تُعجبها هذه المزحة أيضاً.
«أبو احمد» دعاني للحُضور إلى بيروت لأكون إلى جانبه في المُؤتمر الصّحافي الذي كان سيُعلن فيه عن «إغلاق السفير»، لكنّني اعتذرت رغم إلحاحه، وتذرّعت بسبب عائلي، ولكنّ السّبب الحقيقي أنّني لم أرد أن أكون شاهداً على إغلاق صفحة مُهمّة جدّاً من تاريخنا العربيّ والإعلاميّ، في وقتٍ تنتصبُ فيه ناطحات سحاب امبراطوريّة التّضليل والتّزوير العربيّة، فـ «السفير» كانت بالنّسبة إليّ وللكثيرين من أمثالي، ملجأً وملاذاً وبُوليصة تأمين لقيم العُروبة والعدالة والشّرف والكرامة.
لم أرَ الأستاذ طلال سلمان مُبتَسِماً مُنذ إغلاق عشقه الأوّل «السفير». وفي جميع لقاءاتي معه سواءً في مكتبه الذي «كان» مَحَجّاً للكتّاب والمُفكّرين والسياسيين، ومُنتدى ثقافيّاً ليس له مثيل، أو في زوايا أحد الفنادق التي يُحبّها، الشّيء الوحيد الذي كان يُخَفّف عنه حدّة اكتِئابه ويُكرّره طِوال الجلسات إنّه لم يتخلّ عن زُملائه في الصّحيفة، وحرص على إعطائهم حُقوقهم كاملةً من دُونِ نُقصان.
كثيرٌ من الزّملاء الذين سيكتبون في هذا المكان، يعرفون «أبو أحمد» أكثر منّي، بخاصّةٍ أولئك الذين رافقوه في رحلته الصّاخبة والخطيرة، والحافلة بالتحدّيات المخاطر. لكنّ «السفير» لم تكن صحيفتهم وحدهم، وإنّما صحيفتنا أيضاً نحن المُحبّين الذين ينتمون إليها عاطفيّاً ومهنيّاً وسياسيّاً، وربّما تكون نظرتنا ومعرفتنا لهذه الصّحيفة، وصاحِبها وطاقمها لا تقلّ أهميّةً، لأنّنا نرى الصّورة ربّما أكثر وُضوحاً عن بُعد.
الحياة بلا أعداء أو حاسدين، أو غيارى، ليست حياة طبيعيّة، والإنسان السّوي هو الذي يَكثُرُ أعداؤه، لأنّ هذه الصّفة هي أحد أبرز أدلّة النجاح، وقيم الصّدق والوفاء للمبدأ والعقيدة، والبُعد كُلّيّاً عن النّفاق والانحِناء عند أقدام اللّئام، ولذلك لا يُعيب الأستاذ طلال سلمان وجود بعض الكارِهين المُشكّكين، أو «عجائز النّور» مثلما يصفهم عُمّالنا وفلّاحو أرضنا والفُقراء المسحوقون، وما أجملهم.
ربّما يكون الأستاذ طلال سلمان قد أبدى مُرونةً في بعض محطّات مسيرته المهنيّة مثلما يُكرّر بعض الكارهين، ولكنّه ربّما فعل ذلك للحِفاظ على السّفينة واستِمرارها في الإقلاع، وعدم غرقها في البِحار عالية الأمواج، ولكنّه خرج من جميع الامتِحانات والمِحَن مرفوعَ الرّأس من دُونِ أن يتنازل عن قيمه.
أكتب عن المُعلّم والصّديق طلال سلمان الذي كانت لقاءاتي معه هي الأمتَع في زياراتي القليلة إلى بيروت التي أُحبّها، واعتزّ بتاريخها الحافِل في احتِضان العرب صحافةً وفِكراً وفنّاً وإبداعاً، ولم أزر بيروت من دُون أن ألتقيه إلا مرّةً واحدةً بسبب مرضه. ليس هُناك قرارًا أصعب من أن تُجبرك الظّروف على ترك مشروعك الصّحافي يحتضر أمامك ولا تستطيع إنقاذه لأسبابٍ عديدةٍ من أبرزها عزّة النفس وعدم الرّضوخ للضّغط والمُغريات «المسمومة». وقد مررت شخصيّاً بهذه المِحنَة، ولهذا كنت أُقدّر وأتعاطَف مع الصّديق طلال سلمان وأحاول بكُلّ الطّرق أن أُخفّف من مِحنَته.
***
خِتامًا أقول إنّ الفقيد لم يكن مدرسة، وإنّما أكاديميّة مهنيّة وسياسيّة وأخلاقيّة تعلّم الكثيرون في مُدرّجاتها، سواءً بشكلٍ مُباشر، من خِلال العمل في أقسامها، أو غير مُباشر من خِلال المُتابعة المُزمنة عن بُعد، واعترف أنّني من تلاميذِ الفئةِ الأخيرة.
بعد إغلاق «السفير» بأسابيع، التقيت الأستاذ طلال في مقهى أحد الفنادق المُفضّلة له، ووجدته شارد الذّهن، وليس بالحيويّة المعروفة عنه، وغابَ لِسانهُ “السّليط” والمُحبّب عن الحِوار كالعادة، سألته مُلِحًّا عن أسباب هذا الشّرود، أجابني بأنّ هذا يعود إلى عدة أمور أوّلها أن الحياة بُدون «السفير» لا طعم لها ولا مذاق، وأنها بداية مرحلة عذاب الموت، وثانيها أنني اكتشفت قسوة البشر ونِفاقهم، فمكتبي الذي كان يزدحم بالوزراء والكتّاب وعِليّة القوم ماليّاً وفِكريّاً ووجاهة بات هذه الأيّام شِبه فارغ باستِثناء عابِر سبيل مثلك يحنّ إلى زمنٍ مضَى ورِجالاته، وثالثها عُقوق بعض الزّملاء الذين كُنت أعتقد أنني شيء كبير بالنّسبةِ إليهم وكَمْ كُنتُ ساذجًا.
كان باستطاعة الأستاذ طلال، وأُصِرّ على كلمة “الأستاذ”، أن يُنقذ صحيفة «السفير» من الإغلاق ولكنّه لم يفعل، لأنّه وكما قال لي، لم يرد أن “يُلوّث” تاريخه ببعض التّنازلات المُهنية، لأنّ الإنقاذ بهذه الطّريقة يعني ارتكاب إثْمْ أكبر الكبائِر، والصّحف يجب أن تكون مِثل الأشجار، أيّ أن تموت واقفة.
تلقّيت بعد إغلاق «السفير» رسالةً من مجموعةٍ من الأصدقاء في فِلسطين المُحتلّة يُناشدون أن أنْشُرَ مقالات الأستاذ طلال في هذه الصّحيفة “رأي اليوم” ونقلت له هذه “الفكرة”، فرحّب ترحيباً حارّاً، وبدأ بإرسال مقالاته بين الحينِ والآخَر، وكانت تحتلّ مكانةً بارزةً في زاوية «الأكثر قراءة» وعندما بلّغته بذلك في آخِرِ لقاءٍ معه، رأيت الدّموع تسقط من عينيه، وقال أحببت فِلسطين وسأظلّ وهذا التّرحيب من قِبَل أهلها يُؤكّد المُؤكّد، وهو أنني كُنت مُصيباً في هذا الحب في زمنِ العُقوق العربيّ والقوميّ، وحتّى الإسلاميّ.
رَحِمَ اللُه الأستاذ والمُعلّم طلال سلمان، الذي كان فُقدانه خسارةً كبيرةً جدًّا بالنّسبة إليّ، بعد فُقدان الصّديق محمود درويش، وسنظلّ أوفياءً لهُم، وفِكرهم، ومواقفهم الوطنيّة المُشرّفة بإذنِ الله.
موقع رأي اليوم