ما بين مشهد ياسر عرفات واقفاً أمام منصة الامم المتحدة ليتحدث، بإسم فلسطين، وبخطاب كتبه شاعرها وشاعرنا العظيم محمود درويش، قبل ثلاث واربعين سنة، وبين مشهد محمود عباس واقفاً امام المنصة ذاتها ليتحدث باسم القضية المقدسة ذاتها وبخطاب كُتب على عجل، مراعياً الا يغضب احداً فيتجاهل “التحرير” وكل ما قد يثير الغرب الاميركي ومن ضمنه دولة الاحتلال الاسرائيلي، تتبدى مساحة التنازلات مفجعة، وتتحول “القضية” من تحرير وطن إلى خلاف على مساحات من الارض لا قداسة لها ولا تاريخ لها ولا اهل قاتلوا لمدة قرن، تقريباً، من اجل حقهم فيها واقامة “دولتهم” فوق ارضها..
للتذكير: اودع ياسر عرفات، يومها، مسدسه لدى امن المنظمة الدولية ودخل إلى الجمعية العامة ليبدأ خطابه بالقول: جئتكم حاملاً غصن الزيتون تدليلاً على الرغبة بالسلام العادل الذي يحفظ لأصحاب ارض السلام حقهم فيها..
اما محمود عباس فقد وقف امام الجمعية العامة بكامل اناقته، البدلة غالية الثمن وربطة العنق الموقعة من صانعها الاوروبي، والخطاب على ورق ثمين وضمن مغلف أثمن.. وقد خلا من كلمات نافرة مثل “التحرير” و”المقاومة” والحق المطلق في الارض المقدسة.. مع عرض مغرٍ بتقاسم هذه الارض لإقامة “الدولتين”!
في هذا الوقت كانت “الانتفاضة” في الارض المحتلة تتصاعد متنقلة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، تكتب بدماء الشهداء والجرحى حق اهل الارض بأرضهم وبدولة لهم فيها ولو على بعض ارضهم، طالما يستحيل عليهم تحريرها جميعاً لأسباب خارجة عن ارادتهم وتتصل بإرادات الدول العظمى والعجز العربي الذي بلغ حدود الخيانة.
فأما الرؤساء العرب ومن يمثل الملوك منهم ومعهم الحكام ـ الامراء فكانوا مشغولين باللقاء مع وزير الخارجية الاميركي للتباحث حول “المستقبل” بينما الرئيس الاميركي الوعل يخطب من على منبر الامم المتحدد ليهدد العالم كله، بنبرة “الامر لي” في السلم والحرب والاقتصاد والتجارة والزراعة وعلوم الفضاء والذرة والقمح والبطاطا والفاكهة وصولاً إلى البصل والثوم!
لا وقت للحديث عن اليمن الا لرئيسها ـ رهينة السعودية والامارات عبد الهادي منصور.. الا إذا نجح “الحوثيون” في تجنب الابادة!
أما العراق فليرتب اموره بين الأمريكان والايرانيين والاكراد والترك وداعش متعددة الآباء والابناء.. فاذا نجح بقيت امامه مشكلة تقاسم السلطة بين القوى المتعارضة متعددة المذاهب والطوائف والاعراق والعناصر..
وأما سوريا فليكن مصيرها بين الروس والايرانيين والاتراك والاميركيين وفصائل الارهاب، فان انتصر النظام بفضل حلفائه فستكون لروسيا حصة ولإيران حصة ولتركيا حصة ولأميركا حصة…والباقي للسوريين!
وأما لبنان فإنه يستعيد تاريخ صراعاته الطوائفية مع هذه “الحروب” الطوائفية والمذهبية في دول الجوار، مما يهدد بإفساد التوافق الهش على صيغة “الوحدة الوطنية” وتقاسم المناصب والمنافع بين زعماء الطوائف والمذاهب الذي لكل منهم مرجعيته في الخارج، سياسياً وطائفياً وبالعكس..
*****
لا وقت لفلسطين لدى العرب الذين غادروا “أمتهم الواحدة” وشعارات التحرير والتقدم بالثورة.
لقد باتت فلسطين عبئاً ثقيلاً على كواهل المسؤولين العرب الذين يقفون بالطابور امام ابواب البيت الابيض وسائر الإدارات الاميركية بعنوان المخابرات المركزية..
ولعل هذا التخلي العربي يريح المسؤولين الغربيين من ثقل الاحساس بالذنب نتيجة المسؤولية المباشرة عن اقامة الكيان الصهيوني على حساب الشعب الفلسطيني وحقه التاريخي في ارضه التي كانت دائماً أرضه..
.. خصوصاً وان التخلي قد واكبه “إقبال” العرب على الاعتراف بالأمر الواقع: وهكذا باشروا بشخص “اشجعهم” قطر، الاعتراف بالكيان الاسرائيلي وتبادل السفراء مع “دولة العدو”، سابقاً، ثم توالت التنازلات: من مبدأ “الدولتين” إلى مبدأ واقع “الدولة” و”السلطة” التي لا سلطة لها في الضفة الغربية.. وغزة (ولو نظرياً)!..
بعد ذلك، كان لا بد من حسم “الامور المعلقة”، وهكذا قرر دونالد ترامب أن يتجاوز حكاية “الدولتين” بقراره الهمايوني: نقل السفارة الاميركية إلى القدس المحتلة، محرضاَ “الدول التابعة” على نقل سفاراتها ايضا… إقراراً عملياً بكون فلسطين قد “صارت” اسرائيل، دولة اليهود في العالم اجمع..
ولم يكن التطرف الاسرائيلي بحاجة إلى أكثر من هذه الرسالة الواضحة لكي يتحرك: فتنطلق “تظاهراته” لتحاصر المصلين في المسجد الاقصى، ولكي تثبت الشرطة والجيش الاسرائيلي قوتهما بإطلاق الرصاص على المتظاهرين وقتل ستة منهم وجرح العشرات من الذين قدموا للصلاة، لعلها تحمي اولى القبلتين وثاني الحرمين ومسرى النبوة إلى صاحب العزة والجلال.
*****
على مستوى دولي آخر، واستكمالاً لخطة تصفية فلسطين، قضية مقدسة لشعبها الوطني، الذي كان شعبها عبر التاريخ، اقدمت الولايات المتحدة الاميركية على خطوة غير مسبوقة، وان كانت “مقدماتها” معروفة: فقد الغت واشنطن مساعداتها لوكالة الغوث الدولية للاجئين، التي كانت في الاصل مكرسة لخدمة من شردهم الاحتلال الاسرائيلي من وطنهم الذي سيبقى وطنهم فلسطين.. فحذف حرف الـ P من اسم هذه الوكالة الدولية لجعلها “مطلقة” تختص باللاجئين في انحاء الارض جميعاً، ولا علاقة لها بالفلسطينيين بالذات وتحديداً.
هكذا أصبح الشعب الفلسطيني مجاميع من اللاجئين، بعضه في ارضه (في الضفة الغربية وقطاع غزة) والبعض الآخر تائه على وجهه في أربع رياح الارض، بلا مرجعية دولية، ولو للإغاثة، فضلاً عن سقوط المرجعية العربية لتحرير فلسطين، مع سقوط مقررات قمة التنازل العربية في بيروت في العام 2002.
هكذا اذن: يسقط شعار التحرير بقرار عربي مصدره اميركي، ويسقط قرار الاغاثة بقرار دولي مصدره اميركي.. ويتلاقى وزراء الخارجية العرب تحت سقف الامم المتحدة في نيويورك، بقيادة وزير الخارجية الاميركي وهم يجلسون مكتوفي الايدي يستمعون صامتين للقرارات الاميركية التي تحدد لهم مواقعهم وسياساتهم في ما يتصل بقضاياهم الحيوية، بل المصيرية، بعنوان فلسطين.
*****
كيف ستصمد القضية المقدسة، فلسطين، وسط هذا التمزق والضياع والارتهان العربي لإرادة الخارج (الاميركي اصلاً، والاسرائيلي فعلاً)..
أن “الوطن العربي” الذي طالما حلمت به الاجيال واحداً موحداً، هو الآن عبارة عن “مزق”: دول متقاطعة، او متحاربة، معظمها خاضع للهيمنة الاميركية، وبالتالي لمشاريع التوسع الاسرائيلية.. بعضها متهم بموالاة ايران، وبعضهم الاخر يحتاج إلى الحماية الروسية لكيانه السياسي، مع تداعيات هذه الحماية عربياً، على الحاضر والمستقبل..
لقد ابتعدت مصر عن المشرق العربي (سوريا ولبنان والعراق) واندفعت الى علاقات غير متكافئة مع دول النفط، على حساب دورها القومي..
وتعاظمت قطر وانتفخت بغازها فباتت تتصرف وكأنها دولة عظمى..
وغرقت السعودية ودولة الامارات في حرب ابادة ظالمة، في اليمن، يتم اضفاء الطابع الطائفي عليها اكثر فاكثر وتصويرها حرباً بين الزيود (وهم فرقة من الشيعة) والشوافع (وهم من اهل السنة) لطمس الطابع الاستعماري عن سياقها التدميري للبشر والحجر والتراث التاريخي لشعب الفتح العربي..
*****
انها لشجاعة نادرة أن يذهب قادة الدول العربية إلى نيويورك، وان يقفوا على منصة الامم المتحدة ليتحدثوا وكأنهم اصحاب القرار في بلادهم، بينما يخاطبهم دونالد ترامب وكأنهم رعايا وقاصرون ويبلغهم قراراته بغير تورع.. ويقف، في مواجهتهم رئيس حكومة العدو الاسرائيلي حاملاً خريطة تشير إلى المواقع العسكرية الايرانية في سوريا التي ضربها او سيضربها طيرانه الحربي.. حرصاً على سلامة الامة العربية واهدافها النبيلة في التحرر والوحدة التقدم!
لقد هزُلتْ..
رُبَّ يوم ٍبكيتُ مِنُه فلمّا صرتُ في غيره بكيتُ عليه
تنشر بالتزامن مع جريدة “الشروق” المصرية