…وأخيراً سلطنة عُمان التي عزت عليّ زيارتها خلال جولاتي العربية التي امتدت بين المغرب واليمن، مروراً بالجزائر التي شهدت يوم استقلالها (20-9-1962) إلى تونس وليبيا ومصر- أم البلاد- اضافة إلى مشرقنا العربي: سوريا والأردن والعراق والمملكة العربية السعودية وإمارات الخليج، الكويت والإمارات وقطر والبحرين.
في زمن مضى كنت ممنوعاً بالأمر، ولأسباب سياسية… وكان بعض زملائي- رفاق الخط- يُدعون فيذهبون ويعودون معجبين بهذه الدولة التي تحاول النهوض للحاق بركب التقدم.. خصوصاً وقد طوى السلطان قابوس بحكمته صفحة الماضي، بما فيها “ثورة ظفار” التي تجند لها مقاتلون من أهل اليسار الأممي، شرقاً وغرباً، عرباً وفرنجة، فذهبوا إلى تلك الارض البكر الممتدة بلا نهاية يقاتلون الرمل والأفاعي والعقارب والأشباح على مبعدة حوالي ألف كيلومتر من عاصمة الحكم، مسقط، و”السلطان” فيها.
ولسوف تمر سنوات تتقدم خلالها عُمان إلى دور دولة الوساطات والمصالحات بين العرب والعرب، والعرب والعجم، وأحياناً بين أطراف النزاع في دولة واحدة (كما اليمن)، وفي أحيان أخرى بين الأمير الابن الذي خلع أباه الأمير ليحكم من مقعده..
كنت أسمع عن عُمان، أقرأ عن عُمان، أظهر اعجابي بحنكة أهل السلطة في عُمان وقدرتهم على لعب الوساطة في أعقد الأزمات وأشدها خطورة، وذلك بصمت مطلق ومن دون تصريحات عنترية او ادعاءات بالقدرة غير المحدودة، تاركين لنتائج جهودهم أن تتحدث عنها.
غداة ايقاف “السفير” عن الصدور تلقيت دعوة من وزارة الإعلام في السلطنة لزيارتها خلال معرض الكتاب الذي يقام سنوياً فيها..
فرحت بالدعوة التي ستتيح لي – أخيراً- التعرف إلى هذه الدولة التي يبدأ منها- جغرافياً- الوطن العربي من بحر العرب مروراً بالخليج العربي (البحرين، قطر، الإمارات، الكويت) المتصل عند طرفه، مسقط، ببحر عُمان الذي يوصلك إلى المحيط الهندي من جانب والى مضيق باب المندب (واليمن) من الجانب الآخر..
ذهبت مع “العمانية” التي تبدأ رحلتها قبيل السابعة مساء، وتصل بعد ثلاث ساعات يضاف اليها ساعتان هما الفارق في التوقيت بين بيروت (في الغرب) وعُمان (في أقصى الشرق)..
تأخر وصول الموظف في وزارة الاعلام المكلف باستقبالي فمنحني فرصة لتأمل أفواج الواصلين عند منتصف الليل إلى مسقط، وكانت أكثريتهم من الآسيويين (هنود وباكستانيين وماليزيين الخ).
إلى فندق”هيرمز” القريب، وهو فخم العمارة، وإن لم يكن الأفخم بين فنادق هذه المدينة..
*******
مسقط هادئة تماماً، تحيطها الجبال من جهات ثلاث بينما يحتل بحر عُمان عند طرف الخليج العربي، الجهة الرابعة.
الجبال جرداء، وقد شقت في أعلاها طريق أنيقة، محاطة بضمانات السلامة (كانهيار الصخور) تربط العاصمة بمحيطها لجهة الغرب، بينما تتناثر أحياؤها ذات الأسماء العربية الصافية مشكّلة شبه قوس، وهي تطل بمعظمها على البحر… تكاد تحسبها مدناً أو قرى أخرى، ثم تكتشف أنها بعض المدينة-العاصمة التي يظللها اسم السلطان قابوس: الشارع الرئيسي الجامع القديم، الجامع الجديد، دار الحكم (وهو أشبه بحي أنيق مقفل).
الأسماء عربية بالمطلق، فلا اسم أجنبياً، برغم أن البلاد ذات الموقع الاستراتيجي الحاكم قد شهدت، عبر تاريخها، ولا سيما في القرون الوسطى، حملات عسكرية لاستعمارها، تزامن بعضها مع رحلة الاستكشاف التي وصل بها ماركو بولو، البحار الإيطالي إلى هذه البلاد البعيدة عن موطنه، وقد زارها وهو عائد من الهند.
*******
الحدث الذي يتوقعه العمانيون ويحتفلون به كعيد وطني هو المعرض السنوي للكتاب. آلاف الآلاف من الرجال والنساء والفتية، وحتى الأطفال، يزحفون إلى المعرض كواجب مقدس..
ولقد ذهبت عصر الجمعة، أي في اليوم التالي إلى المعرض فكدت أضيع في الزحام، قبل أن ينقذني بعض أصحاب دور النشر في لبنان الذين حملوا انتاجهم إلى هذا “الحدث الثقافي” البارز الذي يتضمن جدول أعماله العديد من الندوات والقراءات الشعرية وبعض الموسيقى والغناء، بأنشطة متعددة مبهجة..
كان مشهد الآباء والأمهات المحجبات وهم يصحبون أولادهم وحتى الأطفال إلى هذا المهرجان الثقافي مفرحاً.. وعند باب الخروج ترى العشرات بل المئات من الزوار يخرجون وهم يحملون الكتب كما يحمل الأب أطفاله وملامح السعادة تغمر وجوههم.
استذكرت معرض الكتاب الذي ينظمه آخر كل عام النادي الثقافي العربي في بيروت، في مبنى مستأجر يحتشد فيه الرجال والنساء وطلبة المدارس والشعراء والكتاب من أصحاب الاصدارات الجدية فيكون عيداً للكلمة والمعرفة وعشاقهما.
*******
في اليوم التالي، السبت، كان موعدي مع وزير الاعلام الدكتور عبد المنعم بن منصور الحسني. استقبلني مرحباً، وبدأ حديثه مظهراً أسفه لغياب “السفير” منوهاً بدورها في نشر الوعي على مستوى الوطن العربي، جميعاً.. وسألني عن انطباعاتي عن المعرض فأبديت اعجابي بحسن التنظيم، في المبنى هائل الاتساع متعدد الطبقات. وأبلغني أن الزوار قد بلغت اعدادهم الثمانمائة ألف رجل وامرأة وشاب، خلال أسبوع واحد.
بعد وقت وقفت مودعاُ فخرج معي إلى الباحة الخارجية للمجمع الأنيق الذي اتسع برحابته لهذا المعرض الذي يضم معظم دور النشر في الوطن العربي…فقلت له أنني قابلت العديد من الناشرين من لبنان ومصر وسوريا والعراق، كما استمعت إلى مطربين ومطربات، والى محاضرين من مختلف الأقطار العربية..
في الباحة الخارجية وقفنا نتحدث، ثم انتبه إلى وجوود طاولات من حولها كراسي، فجلسنا إلى طاولة حجرية نكمل ما بدأنا من حديث عن الثقافة، وكان سعيداً بالنجاح الفائق لهذا “المعرض الممتاز” الذي لم يقاطعه أحد، والذي قدمت السلطنة كل التسهيلات اللازمة لإنجاحه.
*******
في طائرة العودة التقيت العديد من أصحاب دور النشر أو وكلائهم. كانوا سعداء بنجاح المعرض بما تجاوز تقديراتهم، وأشادوا بحسن معاملة العمانيين، سواء من أهل السلطة أو المواطنين وبالإقبال الملفت الذي لقيه المعرض… والذي يعوض غياب أو تناقص الزوار لمعارض مماثلة في أقطار عربية، بينها مصر، على سبيل المثال.
سلطنة عُمان دولة ناهضة، لعل البعض يرى حركتها بطيئة مقارنة بدول الجوار، التي كانت بمعظمها تتبع السلطنة ثم فرضت اغراض الدول العظمى، بريطانيا أساساً، ثم الولايات المتحدة الاميركية، وربما بعض الدول العربية الجارة (السعودية، مثلاً) تقسيمها إلى دول بحسب ثرواتها.. لتترك عُمان لفقرها.
لكن أهل عُمان سعداء بأنهم يبنون بلادهم بقدراتهم الذاتية.