أتذكر رأس بعلبك طفلاً، فقد كان مخفر الدرك فيها اول مركز لخدمة والدي الدركي.. وأمضينا فيها نحو سنتين، وفي جبانة الفاكهة يرقد جثمانا شقيقتي التوأمين اللتين اصابهما مرض مجهول وتوفيتا هناك.
كانت قوات عسكرية بريطانية تحتل محطة القطار بالقرب من رأس بعلبك، عند التقاطع مع الطريق الذاهبة إلى الهرمل.
وأذكر اننا ذات يوم، واثناء الغداء، سمعنا ضجة واصوات بلغة نجهلها، وحين اطلت الوالدة لتبين الامر رأت مجموعة من الجنود البريطانيين يطاردون “دجاجاتها” و”الديك” ذا العرف الاحمر يهرب منهم وصياحه متقطع كمن يطلب النجدة..
صرخت الوالدة باسم ابي مستنجدة، فترك الطعام وانتضى خنجره بعد أن اطل فرأى الجنود يعتدون على الوالدة، فكان اشبه بدون كيشوت يواجه عشرات الجنود المستفزين وهم يطاردون الدجاج والحمام وكل ما يطير..
هتف بي الوالد وهو يواجه الجنود: هيا إلى المخفر فبلغ من فيه.. هيا!
وطرت إلى مخفر الدرك غير البعيد، وابلغت لاهثاً من وجدت من رجال الدرك بالواقعة، فلبوا النداء يتقدمهم “الرقيب” رئيس المخفر، وانا اسعى بين أيديهم راكضا… وفوجئت عند وصولهم بالرقيب يتقدم من الوالد فيسحبه من ايدي الجنود البريطانيين ويقيد يديه، وانا اصرخ به، ثم يمشي به إلى المخفر والمهاجمين يتبعونه، وهناك ادخله إلى غرفة التوقيف، واشار إليهم أن انصرفوا، وان العدالة ستأخذ مجراها!
بعد ساعتين تقريبا، وكان الجنود البريطانيون قد انصرفوا، اطلق سراح الوالد، وعدت إلى المنزل والرقيب يشرح لي انه اضطر إلى هذا الاجراء لكي يحرر زميله من ايدي الجنود المغضبين..
اما لماذا الغضب، فلأن الجنود كانوا قد أعدوا حوالي العشرين من ديك الحبش، وعلقوها في سقف الخيمة، تمهيداً لطبخها في الصباح وتناولها في عشاء الميلاد… لكن مجموعة من اهالي تلك الديرة المتشوقين إلى اللحم، فكيف بديك الحبش، “سقطوا” ليلاً على الخيمة فانتزعوا الديوك جاهزة للطبخ وانصرفوا بها.
ولقد عوض الجنود البريطانيون ديوك الحبش بديوك الاهالي ودجاجاتهم.
وكانت تلك هي “المعركة” الوحيدة التي شهدتها من معارك الحرب العالمية الثانية… والتي جعلت بيتنا شريكا لأهل راس بعلبك في الخسارة!