أعرف اليوم وبكثير من الثقة والفخر، بأن الدعم المعنوي الذي لطالما قدمته ـ كما قدمه شباب كثر من العالم أجمع ـ كلما سنحت المناسبة وكلما كان هناك مجال للتعبير عن تضامننا البعيد مع قضية الأبارتايد في جنوب أفريقيا، لم يكن في مكانه فحسب، وإنما كان ضرورة قصوى لتطوير وعينا الإنساني تجاه قضايا الظلم والعدالة في كل مكان في العالم.
كنا حينها شباباً يملؤنا الأمل وأحلام تغيير العالم.
ثم جاء القنوط وجاءت الخيبات، وحلَّ الاحباط والسينيكية مكان كل هذا الكم من الحماس. لا أعرف أحداً من ربعي من شيمه التفاؤل، أصبحنا نخفي خيباتنا تحت قناع من اللامبالاة أو الصمت أو الخجل. وحين ننظر إلى وجوه بعضنا البعض، نكتشف كم نحن بعيدون عما أردنا وعن كل آمالنا وأحلامنا.
ثم جاءت الدعوى التي رفعتها دولة “الأبارتايد الذي زال” ضد دولة “الأبارتابد القائم” لتقول أن ما يُزرع في مكان ما لابد أن ينبت في مكان آخر مهما بعدت المسافات ومهما مر الزمان، وأن الأمور التي تبدو كأنها تدور في كواكبٍ بعيدة قد تهبط فجأة علينا كبسمة أو كلحظة حب.
قد لا تصل الدعوى التي رفعتها بلاد مانديلا ضد دولة نتنياهو إلى نتيجة وقد تصل، لكنها تقول بالصوت العريض ما عجزت بلادنا المترامية عن قوله وفعله. ليس هناك أكثر ألماً من أن تقوم جنوب أفريقيا بما كان يجب أن تقوم به مشيخات وإمارات وجمهوريات موز تتمسك بكراسيها.
الآن أعرف أني حين فرحت لخروج مانديلا من سجنه الطويل وأني حين صفقت وهتفت يوم سقط الأبارتايد وأني حين بكيت يوم مات “ماديبا” أحد أكبر رجال العصر وأكثرهم نبالة، كنت أدافع عن الفلسطيني فيَّ، عن السوري والانسان فيَّ، وكنت أدفع عني طيف القهر الذي عشته وأعيشه.
لا منَّةً لأحد إذ يدافع عن فلسطين، فهي تنقذ بقايا الإنسان فينا، مثلما بلسمت وتبلسم جنوب أفريقيا بعض جروحنا.
لقد خذلنا حكامنا وخذلنا العالم الذي لم يعد نفاقه وازدواج معاييره بحاجةٍ إلى أي برهان. وليس لأي منا ثقة بشيء ولا بأحد، لكنها فتحةٌ من نور أن يقف محامون بعضهم سود البشرة وبعضهم بيضها، يقولون ويكشفون ويحاولون ثقب درع الشر وآلة القتل المحمية من سفهاء العالم.
هذا يوم يؤرخ له، سنستشهد به حين يقول أحدنا أن “مافي باليد حيلة” وسنقول: هناك دائماً في اليد حيلة ما، وربما هذا ما ساعدنا ولا يزال على عبور بحور اليأس ولو بمراكبٍ من ورق..
نحن في لحظة هائلة من لحظات التاريخ، وهو تاريخٌ يكتبه وائل الدحدوح بدماء أحبابه، وهو تاريخ تكتبه الأيدي المقطوعة تحت الأنقاض، والأرواح التي تصعد إلى سماءٍ لتنيرها كالنجوم. نحن في لحظة هائلة من التاريخ بدأت عام ١٩٤٨، ثم بدأت عام ٥٦ و٦٧ وبعده أعوام ٧٣، ٨٢، ٩٠، ٢٠٠٣، ثم كانت الـ ٢٠١١ وثوراتنا الخائبة، ثم صرخات الأمل ودموع الاخفاق، ثم الأرواح التي غادرت وتركت فينا ندوبا، ثم ما سيأتي وماسيكون… هذه لحظتنا وهذا تاريخنا وهو مكتوب بالدم مرة وبالطبشور مرات، لكننا هنا لا نزول..
من القلب شكراً لأبناء مانديلا ولكل من وقف اليوم ليقول كلمته ضد البرابرة…
جلَّ جلالك فلسطين!