آلام من كل الجهات. يقتلوننا مرات كثيرة. دموعنا لا تكفينا. انما الذين ماتوا هم أحياء يُرزقون. فلسطين ما تزال تنفق من دمها. لكن هناك أمراً غريباً: برغم القتل والتقتيل، ما زالت غزة الصغرى تواجه وتقرع أبواب السماء بشهدائها.
ما زلتُ أسمع مسار الجراح. غريب! الأنين غناء. الحزن بسالة. اليقين سراب. الأمل ألم لا يمضي.
انما، لم أتمرن بعد على امتداد الجراح وأنتظر نهاية المذابح. إن لم، فان الحياة ستعود إلينا على عكازين. لن يحصل ذلك قبل أن ينتهي وقت الإبادة. إن الغد القادم، ينتظر. متى يأتي اليوم الأخير؟ لنحكي ملحمة الأطفال والنساء والرجال وما تبقى من سماء.
ما أفدح صبركِ يا غزة. العالم كله مشطور بسببك. اختلط الشرق الموجوع بالغرب الإنساني. فلسطين عكَّرت صفو السياسات، وخرقت عداء السلطة الأميركية الفاحشة والمتوحشة، وتبنت وجع غزة. فرحت شوارع المدن الأميركية بوقع أقدام مليونية..
سبحان الفلسطيني. إنه المسيح الذي يترجل عن صليبه، بعد كل جمعة حزينة، ويتصبب حباً من القبر. المسيح الفلسطيني من على صليبه، منذ ألفي عام، رمز الحياة بعد الإبادات.
الفلسطيني يرفض الغياب. أقام عهداً بين دمه وغده. الواقع الراهن وتألق العذابات وسمو الأمل بالحرية، يفضح الدول الرمادية. يدُلّك على هشيم الهتك السياسي. يشير من بعيد إلى عفن الحكومات، وإلى الإخصاء المبرمج، لجيوش بعتاد باهظ جداً، مدفوع سلفاً، كي يحرثوا الحقوق، ويحرسوا السلطات. الأنظمة العربية، كلها، يعني كلها، هي تحت أقدام الغرب. والعصا لمن عصى. مكانهم قصور العار ودفاتر الشيكات، وأرصدة النفط، وشهادة حسن سلوك لممارستهم القمع بلا هوادة.
فلسطين ليست من هذا العالم العربي المُدجّن. الشعوب المصابة بالقمع والمتاخمة للسجون، تحمل في صدورها، ما لا يوصف من الغضب. أرواحهم أقوى من أديانهم. لقد نجوا، وهم في بلاد السجون والقمع والمنع والـ..، وخبّأوا فرحهم ومارسوا طقس الحزن، سراً، خوفاً من جلاوزة الأمن وسفَّاحي المخابرات وشرطة العار.
الشعوب العربية ليست مريضة، ولكنها معتقلة بتهمة الخوف منها، لأنها إذا استشعرت الحرية، طردت لصوص السياسة والسلطة.
أحاول أن لا أتابع مسلسل شلالات الدم. أبحثُ عما يُخرجني من هذا القبر المتخم، من المحيط إلى الخليج. أندَسُّ في صفوف، شعارها، قداسة الإنسان والحرية والعدالة.
“ما أقسى البكاء حين يتخمَّر ويُعتَّق”؟ ما أفدح أن ترى طفلاً يدفن أمه ويجلس قربها. لا يعرف إلى أين؟ ذاكرته أُمحت. عليه مهمات رجل، وهو ابن السادسة. يصح عليه ما كتبه شاعر: “أبحثُ عن ذنوبي، أحصيها، فلا أجدها. لست قاتلاً. لسنا قتلة. أيادينا غير ملوثة بدماء.. فقط، نحن ارتكبنا أخطاء مختلفة. لقد ولدنا في أرض غلط. أرض الممرات والجحافل”.
كان بوده، قبل أن يُقتل، أن يصير طبيباً في مستشفى. قالوا له، أنت مجنون؟ ليس أمامك غير حيفا، وخلفك بيت لحم، وشاطئاً. أنت منذور لغير الفرح. ستبكي كثيراً.. وسيبكيك الملايين، هنا وهناك وهنالك. ستسكن في دموع بشرية وستسمع نداءات الحرية، وأغاني الغضب، وستتعرف على بلادك التي تبنتها مليارات شعبية. حتى أنت ستسمع ما يحصل في نيويورك؟ القبضات في نيو مكسيكو، في باريس وضواحيها من الشمال إلى الجنوب. إلى لندن التي أبهرتنا بوقع الأقدام النبيلة. لقد تحرّرنا بغنائهم. اعتقلوا الكثير. صوّبوا جبهة الإعلام وأسلحتهم ضدنا. اعتقلوا. هدّدوا. أحضروا بوارجهم. منعوا الإنسانية من التعبير عن ذاتها.
قليل من الشعر كافٍ لسد فجوات العار. من حيفا، كتب الشاعر راشد حسين:
وتقتربُ الأرضُ مني
وتشربُ مني
وتتركُ عندي بساتينَها
لتُضحي سلاحاً جميلاً
يدافعُ عنَي
وحتى إذا نمتُ في الحلم
تقتربُ الأرضُ مني
وبين المنافي أهرب زعترَها
وأُنشد أحجارَها
وأنضحُ حتى دمي من عروقي
فتقتربُ الأرضُ مني
وتتركُ عندي حجارةَ حب
تدافعُ عنها وعنّي
وحين أرد الجميل سأحضُنها ألفَ مرة
وأعبُدها ألفَ مرة.
لم أعرف من قبل عمر الجريمة. يبدو لي أن الجريمة حرة ولا قيود عليها. الصمت يحميها. هذه المرة، خرجت الجموع البشرية تُصر على الحرية والعدالة والقيم. وشنعت على دول أنيقة جداً في أوروبا، وارسلت سهاماً رخوة، لدول أخرى، ولأنظمة عربية يبدأ صاحبها بـ “سيدي ومولاي”.
العالم مشغول راهناً، بتعميم الكذب والإحتيال والعنف والتبرير ومحاكمة الأبرياء وقتل النساء والأطفال، ومطمئن الى أن غزة ستبقى وحيدة، وستتعرَى من ترابها وسمائها وشعبها. ستحتفظ بفوضى الشهداء، الذين لم تتسع لهم المقابر، ولا اسرعت الصلوات لمرافقتهم. غزة سجن كبير. أكبر من قارات.
من تَغيَّر حتى الآن؟
من الدول؟ لا أحد. من التكتلات؟ لا أحد. من الإعلام؟ لا أحد. انما، والمعركة وثقل الجلجلة، ما زالا على قيد الدماء، فإن أملا يتسع. مع ضرورة توجيه التحية، لمناضلين أشداء، من حكماء عقلاء، من صادقي المبادئ، من ملتزمي صفوق الحق، لعلماء وممثلين ورياضيين، أثاروا الغوغاء ضدهم.. تحية أيها النبلاء. لقد علمتمونا كيف نواجه أنظمة قذرة بثياب فخمة.
تحية لفنانين عظام. لممثلين كبار، لقضاة عصاميين، لكتَّاب تجرأوا. لكل معلوم ومجهول، تقدم الصفوف، ليكون مع غزة فلسطين.
أختم الأحزان والدموع بما أنشأه من زمن، الشاعر راشد حسين:
“واقفٌ كلي مذلة
في مطار القاهرة
ليتني كنتُ حبيساً
في سجون الناصرة”
أخيراً. هذا صوت فاسمعوه.
هذه فلسطين يا ناس، يا عالم. يا هولاكو:
نيران الجحيم الراهن لا تقوى عليها.