ثمة شخصيات تصنع هويتها الخاصة في ميادين عملها. حلمي التوني له هويته الفنية التشكيلية الخاصة، لا بل يمكن القول إن الهوية التشكيلية المصرية صارت في جزء منها مرتبط بهوية حلمي التوني واختياراته لمعاني التاريخ والحب والجمال والمرأة والأمثال الشعبية إلخ.
***
سألته ما الفرق بين الكتابة والرسم؟ أجاب بأن الفن لغة بصرية. لم يصمت. فالأستاذ حلمي التوني يحب الحوار كما يحب الرسم.
دار حوار بيني وبينه عن تجربته في الصحافة، فراح يستذكر سنين عمله في لبنان. في صحافتها ومع «صحافييها المبدعين»، على حد وصفه. الصحفيون المتفوقون بابتكار الجملة القصيرة.. والبليغة. شرح بإسهاب كيف أن العنوان هو الفكرة. وأن مانشيت الجريدة هو الملخص، وأكمل أن اختراع المانشيت يتطلب بلاغة، وأن الفن قمة البلاغة. هذه اللغة البصرية موهبة امتلك ناصيتها حلمي التوني منذ الصغر.
– سألته «هل الموهبة تُوّرث»؟
أجاب بقطعية تامة «إنّها تُخلق ولا تُورّث».
– متى خُلقت هذه الموهبة؟
«هي رسمة البقرة»!
***
في آخر زيارة إلى منزله بحي الزمالك في القاهرة في الأسبوع الأول من شهر يوليو المنصرم، أفصح لي حلمي التوني عن ولادة موهبته حين سألته عن أول لوحة رسمها في حياته. كان ذلك في السابعة من عمره. رسم حلمي ببراءة الطفولة بقرة رآها خارج المنزل. فصاح والده عبد الحميد مناديًا بأعلى صوته أخاه عبد العزيز قائلًا: «شوف البقرة اللي رسمها حلمي.. إنها أجمل من البقرة التي في الخارج». ثم ضحك حلمى الكهل الجالس على فراش المرض وهو يتحسس بيده بحثًا عن قلمه وأوراقه لكأن المرسم (المحترف) الجديد صار في هذه الغرفة المكيفة التي تستفيد من وجود الشقة في محيط السفارة الصينية بالقاهرة حيث يجب ألا ينقطع التيار الكهربائي، ولو أن المنسوب الكهربائي يُصبح أقل من المعتاد عليه.
في تلك الزيارة استفاض حلمي التوني وعلى مدى أكثر من ساعة في سرد بعض محطات مسيرته الفنية والشخصية، متكئًا على ذاكرته التى بدت تفصيلية ولا تهمل أدنى واقعة، وهو الذي بلغ التسعين من عمره. اشتكى من خسارة وزنه بسبب مرضه.. أما سر مرضه فلا يتصل إلا بأمر واحد: الإدمان على الرسم، وقد حذّره أطباءه من أن الاستمرار بالرسم يوميًا بات مُضرًا لصحّته. غير أنه لم يلتزم بنصائح الأطباء، فالرسم بالنسبة إليه هو معنى الحياة الفعلي. كان على موعد يومي بين الساعة الثالثة عصرًا وحتى ساعات الفجر الأولى، قبل أن تزيد الأوجاع فيصبح شبه مقعد في السنة الأخيرة من عمره.. وظلّ حتى يومه الأخير يرفض التخلي عن الورقة البيضاء والريشة.
***
هو مصري كامل النسب. انصهرت فيه طبقتا مصر الاجتماعيتان الطاغيتان على ما عداهما. نصفه فلاح ونصفه الثاني باشا. فعائلته تنحدر من تونة الجبل في المنيا بصعيد مصر. قدم والده منها وتزوج من ابنة الباشوات حفيدة إسماعيل باشا. يحكي كيف سقطت عائلته من السماء إلى الأرض بعد أن خسرت ثروتها كاملة عند التأميم الناصري، ليعيش من بعدها مراهقة قلقة تبحث عن ذاتها، سياسة وفنًا، ويقول إن خسارة عائلته لم تجعله يقف ضد الثورة والتأميم وظلّ متيقنًا من صدقية خياراته حتى آخر أيامه.
يتذكر عندما طلبت منه أمه حين كان في السادسة عشرة من عمره أن يبيع بعض مجوهراتها الذهبية بعدما ضاقت بهم الأحوال بسبب مصادرة الأرض والأموال في الزمن الناصري وأنه اضطر إلى العمل مع أخيه الأكبر حتى يؤمنا سوية احتياجات البيت الأساسية، من مأكل ومشرب، وهذا التغيير في الأحوال، لم يأتِ أبدًا على حساب الفن. ظلّ حلمي وفيًا للبقرة التي فتحت له أبواب الموهبة، إلى أن وجد طريقه إلى الكلية لدراسة الفنون في العام 1954 وتخرج منها بعد أربع سنوات. هناك استطاع صقل موهبته الفطرية بالعلم والمعرفة، مُستمدًا من لغته البصرية مادة ثرية ما بارحها يومًا بدليل لوحاته التي تضج فرحًا وألوانًا. وهكذا انغمس في أرضه وهويته فنانًا بلديًا مصريًا مئة بالمئة.
***
حلمي التوني ظلّت ريشته سلاحه. من ابتداع دمى الماريونيت في مسرح الأطفال إلى أغلفة الكتب والقصص المصورة للأطفال وملصقات الأفلام والمسرحيات وحتى صناعة بعض الحرفيات القماشية والمجوهرات مع صديقته عزة فهمي، إلى الإخراج الصحفي عبر صناعة ماكيتات مجلات وصحف عربية أبرزها «وجهات نظر» المصرية.
هو صاحب مقاربة تشكيلية مميزة. مقاربة برجوازية بعين فلاح من محافظة بني سويف. كأن بعضًا من برجوازيته القلقة أبت أن ترحل عن لغته البصرية. فتسربت إلى لوحاته فنًا مصريًا أصيلًا.
حتى ابتكاره لشعار جريدة السفير اللبنانية كان نتاج لغة بصرية استمدها من ثقافته العربية التي كانت تُميزه وكل رعيله من الفنانين والمثقفين المصريين.
كيف؟ عرفَ بحسه الفني أن موقع جريدة السفير السياسي والاجتماعي، كما وصفه له ناشرها الأستاذ طلال سلمان بحاجة إلى التميز. عندها تذكّر البرتقال اليافاوي الذى كان يجلبه عمه من مدينة يافا في فلسطين حين كان طفلًا. وكيف أن لونه البرتقالي الفاقع يُضيف تميزًا للجريدة اللبنانية العربية الحديثة الولادة. هذا التميز هي في أشد الحاجة إليه بالمقارنة مع منافستها جريدة النهار اللبنانية ذات اللونين الأزرق والأبيض.
كان حلمي التوني على حق. الفن لغة بصرية. كيف لا وهو الذي يُعد الأب الروحي للفن التشكيلي المصري وأحد أعمدته. يكفي أن تُلقى نظرة سريعة على أحد أعماله. فتجد بصمته الفنية تطالعك من دون عناء، معلنة أنها لحلمي التوني وليس لأحد آخر. أعمال تُذكرك بهويات فنانين عالميين مثل بيكاسو ومونيه ومن المعاصرين مثل جورج كوندو. بصمة تونية لا تحتاج إلى متخصص. حلمي التوني علامة فنية مسجلة بختم النيل بما يختزنه من تراث على مدى ملايين السنين.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق