… ومع أول يوم من ربيع العام 1974 وصلتنا النجدة التي أنقذتنا من حيرتنا وترددنا الذي استطال أكثر مما يجب في اختيار رمز “السفير”.
كنا قد عقدنا جلسات مطولة، على هامش إنتاج “الأعداد الصفر”، وطرحت مقترحات عدة من وحي حماستنا الفائقة وكأننا نصدر أول صحيفة في الكون… ولقد شارك في النقاش العديد من الأصدقاء بينهم محسن إبراهيم وفؤاد شبقلو وجورج حاوي إضافة إلى أركان “الأسرة” التي كانت قد تكاملت تقريباً وفيها ياسر نعمة وبلال الحسن وإبراهيم عامر وميشال حلوه وتوفيق صرداوي وعلي جمال الدين طاهر… تقافزت الخيول من حولنا وحلقت النسور واقترح البعض “الحقيبة الدبلوماسية”، متندراً، ورد آخر باقتراح “الردين غوت”، وعلقت الجلسات لتستأنف ولا جديد.
بعد ظهر الأربعاء في الواحد والعشرين من آذار، دخل علينا في مكتب رئاسة التحرير حلمي التوني. أردنا الاحتفال به فقال: لننجز أولاً ثم نحتفل.
فتح حقيبته الجلدية الرقيقة وأخرج منها صفحات مطوية فعلقها على جدار المكتب مقدماً لنا تصوره لما يفترض أن تكون عليه الصفحة الأولى من “السفير”.. ثم، وبهدوء شديد، تقدم ليلصق “الشعار” الذي ابتدعه وقال: لم أجد أفضل من الحمامة رمزاً يتناسب مع الاسم. يمكن أن تعتبروها “الحمام الزاجل” الذي كان أسرع بريد في الماضي، كذلك قد يرى فيها البعض رمزاً للتواصل بين الشعوب في مختلف البلاد، ولعلكم في لبنان تحتاجون إلى رمز مهدئ في ظل الاحتدام السياسي الذي تعيشونه هنا كانعكاس لانحرافات بعض القادة العرب وتفريطهم بدماء الشهداء في النضال الفلسطيني، بل العربي عموماً، إذا ما تذكرنا الوقائع السوداء لنهاية الإنجاز التاريخي في حرب أكتوبر!
كان الحل سحرياً. واتخذ حلمي التوني موقعه كركن من أركان “السفير”، وهو الفنان الذي يحمل خبرة عريضة في دار الهلال برعاية مثقف الصحافة العربية أحمد بهاء الدين، والذي عرف لبنان وأعطى فيه جانباً من إبداعه لمطبوعات «دار الفتى العربي» التي كانت أرقى مؤسسة اهتمت بتثقيف الفتية وتنوير الأطفال بالأفكار المشجعة على القراءة عبر الحكايات والرسوم التي شارك في إنتاجها نخبة من الرسامين الكبار بينهم محيي الدين اللباد وبهجت عثمان وأحمد حجازي، وإن ظل حلمي التوني الأكثر التصاقاً بها.
قال حلمي التوني: يمكنكم اعتباري لاجئاً سياسياً، فلقد باشر السادات اضطهاد الوطنيين جميعاً، بعد الضربة التي وجهها إلى الجيش عبر تجميده إثر انتصاره في “العبور” مما مهد لقيام جيش العدو باختراق الجبهة وإحداثه ثغرة الدفرسوار التي ضيّعت دماء الشهداء، وحوّلت النصر المحتمل إلى هزيمة محققة ضربت مصر ومعها الجيش السوري الذي كان قد حقق إنجازات عظيمة على جبهة الجولان، أبرزها نجاح مظلييه في تحرير مرصد جبل الشيخ… وبديهي أن ذلك كله قد ضاع حين تفرغ جيش العدو لمواجهة سوريا بعدما أمر السادات جيش مصر بالانسحاب ثم بوقف إطلاق النار تمهيداً لأن يخرج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي.
ظلّلنا الوجوم لدقيقة، ثم هتف “كبيرنا الذي علمنا السحر” إبراهيم عامر: وإيه يعني؟! سوف ترجع مصر ذات يوم إلى الميدان، وذلك أمر مؤكد، لكننا لسنا أصحاب القرار فيه. أما مهمتنا نحن فهي إصدار جريدة “السفير” في بيروت، والسعي بكفاءاتنا لتوفير شروط نجاحها. والآن وقد أنجزنا تدريب جهاز التحرير، وأتممنا التجارب وصار للجريدة شخصيتها المميزة عبر الماكيت المتقن الذي توجّه الآن الشعار، فهيا إلى العمل…
همس لي حلمي التوني: عم إبراهيم لا يعرف المزاح ولا يطيق البطالة. إنه يعمل حتى وهو نائم. إنه من العشاق النادرين لمهنة الصحافة، ثم إنه يعرف أبوابها وفنون الكتابة جميعاً، التحليل والتعليق والريبورتاج والمقابلة، وهو ضابط إيقاع عظيم… ثم إنه “مدرب” عظيم وسيخرِّج لـ”السفير” جيلاً من الصحافيين الممتازين، فاطمئن.
عندما أنتجنا “الصفر ـ 4” قال محسن إبراهيم: إنها جريدة خطيرة.
قال إبراهيم عامر: انتظروا اللمسات الأخيرة لحلمي التوني. إنه فنان كبير.
وقال ميشال حلوه: يجب أن نعترف أن الزملاء المصريين أكثر منا مهنية. إنهم يلتزمون بأصول المهنة، أما نحن في لبنان فنهتم بالسياسة والسياسيين أكثر من الصحافة، ثم إننا في الغالب الأعم، نعتبر الشكل ثانوياً. وغالباً ما يُترك لمركب الصفحات أن “يخرجها” كما يستنسب.
سهرنا الليالي الطوال: ننتظر في المطبعة أن يحمل إلينا إيلي ربيز النسخ الأولى من التجارب، فنعكف على دراسة كل تفصيل.. نناقش كثافة الخط ومواقع الصور وأحجامها وكلامها. نعترض على بعض رسوم الكاريكاتور، ثم ننهي النقاش حولها بالقول: فلنتركها لناجي العلي، إنه قادم.
.. كان ناجي العلي في الكويت، وهو صديق قديم لياسر نعمة ولبلال الحسن ولي، وكنا تلاقينا جميعاً في مجلة “الحرية” ـ لسان حال حركة القوميين العرب أصلاً، وقبل أن تتولاها منظمة العمل الشيوعي لتنتهي عند الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين.
ولقد هاتفت ناجي العلي فقال بلهفة من تحققت أمنيته: والله إنني أنتظر مكالمتك منذ أسابيع… هياني جاي يا خوي!
أطلقنا “الحمامة” في حملة إعلانية جديدة فاستقبلها الجمهور بحماسة لافتة، وبات الكل يعرف أن ذلك الطائر الوادع والذي يسكن معنا في بيوتنا هو رمز الجريدة الجديدة التي سوف تطل على الناس صبيحة الثلاثاء الواقع فيه 26 آذار 1974.
هذا عن حلمي التوني المخرج الصحافي صاحب الأسلوب المميز.
أما حلمي التوني الرسام المبدع بلوحاته الرائعة فهو كلاسيكي مجدد حقاً، لا سيما أنه يغرف من نهر التراث التشكيلي المصري الذي يمكن القول إنه قد تكامل مع فجر التاريخ الإنساني المعروف، إذا ما استذكرنا فن النحت والرسم والبراعة في استخدام الألوان منذ الفراعنة (الأقصر، أبو الهول، الكاتب المصري، الفلاحة ومختلف الرموز التي لا تزال صامدة حتى اليوم بألوانها الأصلية).
وحلمي التوني فنان ملتزم بكل معنى الكلمة: هو المصري المعتز بعروبته، وهو المبدع الذي لم يتخل يوماً عن قضية الإنسان والوطن والأمة، وهو “أصولي” حتى في التفاصيل، لا يقبل تفريطاً أو خروجاً على الأصول مهما كانت الذرائع… بل إنه يتعامل كمخرج صحافي مع المادة كأنه يرسم لوحة، ففي تقديره أن “الصفحة” وبغض النظر عن طبيعة مادتها تخاطب عين القارئ وذوقه وإحساسه بالجمال، فلا يجوز الارتجال فيها أو التساهل في أدق التفاصيل.
ولأن حلمي التوني فنان ملتزم، ولأنه عربي في مصريته، فقد بادر إلى نجدتنا حين قررنا في “السفير” أن نصدر “ملحق فلسطين” كجهد إضافي لحماية القضية القومية المقدسة… وهكذا فقد قدم لوحات الغلاف لهذه المطبوعة التي تحاول أن تحمي الحاضر والمستقبل بحماية ذاكرة الأرض المقدسة ونضالات شعبها الذي يتآمر عليه العالم لكي يخرج من وطنه ويخرجه من ذاكرته ويترك هويته لرياح النسيان أو هوايات السلامة في الإذلال المفتوح.
لم يعد حلمي التوني يسألنا أو ينتظر هاتفنا التذكيري بل هو يبادر فيرسم فلسطين لفلسطين والأجيال الجديدة من الفلسطينيين التائهين في بلاد الله الواسعة بعيداً عن وطنهم ـ القضية.
في عيد “السفير” يستحق هذا الفنان المبدع والملتزم في نتاجه المميز تحية من الجريدة التي ساهم في بلورة شخصيتها وفي تزويدها ببعض عدة النجاح الذي حققته في إنعاش الذاكرة الفلسطينية خصوصاً والعربية عموماً حتى لا تسقط منها القضية المقدسة.
II زمان العطش
سألت ببساطة: لماذا تهرب مني؟!
ورد بهدوء: بل أهرب مني.
قالت: لكنني لن أزعجك. لا أريد منك إلا ما فاض من حبك عن ذاتك.
قال: لقد ذهبت أيام الفيضان… إنه زمان العطش ولا طريق إلى الماء!
قالت: ولكنني مطر!
تنهد فأضافت: لست سيلاً، بل يمكنني أن أكون رذاذاً منعشاً، ينهل عليك قطرة قطرة، فأروي عطشنا معاً!
قال: عرفت مثل هذه التجربة من قبل، وكان عليّ أن أكافح لأمنع الفيضان من اجتياحي. لست رجلك! لست بحاجة إليّ.. أنا أسكن ماضيَّ بهدوء ولا أرغب في مغادرته، لأنني لا أقدر على استعارة زمن ليس لي. ولا أريد أن يصير الزمن عدوي. لقد هادنته وهادنني، أنظره راضياً وهو يمضي بي بعيداً عن رغباتي وهوسي وتاريخي في الجنون.
ضحك ثم أضاف: هل يعترف الجنون بالتقاعد؟
قالت: هذه كلمات مراهق طائش! لكم أحب الطيش!
طال الصمت، فهمّت بأن تقول كلمتها لكنه سبقها فقال: ها أنذا أواصل هربي مني… إنني أعجز من أن أرتكب الطيش من جديد!
III آهات مختلسة.. مع سمية
يسري بنا الصوت إلى النشوة صافيا، رقراقاً، نابضاً بحب الحياة. يرتفع بنا رويدا رويدا فنتسامى نحو ذروة الآه، ثم يمتد كمروج من الورد الأرجواني تزركشها ضمة من البيلسان، قبل أن تهبط بنا لتغرقنا في بحور الوجد فنسبح في أوجاعنا حتى ضفاف اليقين بروعة الحياة! لكم أضعنا من متع الدنيا ونحن نغرق في غياهب التفاصيل التي تمسخ السياسة وتشوّه الدين وتغتال الأشواق والقبلات المختلسة والحنين الذي يدوي خفره كرنين نغمات عود في يد هاوٍ يتعلم العزف بالعشق.
تأخذنا سمية من نهارات التعب وبؤس أخبار طواويس السياسة الذين استولدتهم الحرب الأهلية ويسهرون الليل من أجل تجديدها حتى لا يأخذهم الصمت إلى النسيان. تخرجنا من أوجاع جراحنا المفتوحة. تستعيد وتعيد الينا وجوه الأحبة الذين غابوا وما غابوا. فيطل إبراهيم مرزوق مع محمد عثمان، ويجيء بهاجيجو مع عبده الحامولي، وينسل أبو علي الخطيب في ثياب زكريا أحمد ويقف نبيه الخطيب حارساً لتراث رياض السنباطي… ثم يشكل الجميع جوقة لسيد درويش وتخته.
تقول سمية إن الورد جميل فننزف الوجع عبر الآه التي تمتد أطول من المسافات التي باتت تفصلنا عن وجداننا. نستذكر الماضي لنجمل به الحاضر ونستنقذ المستقبل من مخاطر التيه عن الذات.
يصل عبد المطلب متأخراً فيحمله حلمي التوني على فرشاته ويلون ببحته المنشية ليل الطرب الموشح بالحزن، في حين تترقرق أصابع محي الدين على أوتار قلوبنا المعلقة على متوازيات القانون فنسمع لها رنين الفرح المشتهى.
سمية بعلبكي التي تحفظ لنا غدنا بذاكرة صوتها الذي لا يقبل إلا الأصيل من آهات الوجدان: غنينا فرح الحياة لعلنا ننسى بعض تعاسة الحاضر ونحن نحلم بمستقبل يمتد نديا كصوتك الباهر.
IV من أقوال نسمة
قال لي “نسمة” الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ عشقت حبيبي من صوته قبل أن أعرفه. إنه عميق جداً، وشفاف جداً، يفيض وجداً متى قرأ الشعر… حتى في الشؤون العامة يتلو الأرقام وكأنها قطعة موسيقية.
الصوت دليلي إلى حبه… هل تراني واهماً. حسناً سأعيش في وهمي قصة حبي، وستكون دليلاً للعشاق!