اندثرت قيمة “العرب”، كأمة، أو كدول، أو تكاد: الدول الأغنى بالنفط أو الغاز مرتهنة لمكتشفيه ومستثمريه، والدول الفقيرة مرتهنة ـ بحاجتها ـ لمن يسترهنها بالقروض والمساعدات المشروطة.
لعل المؤتمرات واللقاءات الدولية تقدم مؤشراً على الواقع العربي الجديد وآخرها ذلك الذي عقد في الأرجنتين، وشارك فيه رؤساء الدول الكبرى الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الروسي وفرنسا وبريطانيا وكندا والصين وبعض الدول الأفريقية الخ..
أما الدول العربية فقد اقتصر تمثيلها على السعودية بشخص ولي عهدها الأمير محمد بن سلمان، وكان حضوره مفاجأة المؤتمر، بعد كل الإتهامات وانماط اللغط التي رافقت ثم أعقبت إغتيال الكاتب الصحافي جمال خاشقجي في قلب القنصلية السعودية في اسطنبول.
كانت هذه القمة مثيرة بما حفلت به من اتفاقات ثم من مفارقات كامتناع الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للتباحث في القضايا المعلقة بين القطبين الدوليين.
كذلك بين ما يثير فيها انها آخر قمة تحضرها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
وان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي شارك فيها عاد الى بلاده ليجد أن قوس النصر الذي يكلل جادة الشانزليزيه في قلب باريس، قد أصابته شعارات المتظاهرين الذين ملأوا الجادة، مرة أخرى، مطالبين بحقوق اقتصادية (في الأجور والتعويضات) تحفظ كرامتهم، بعد طول إذلال.
كان واضحاً أن ولي العهد السعودي قصد الخروج من المملكة، لأول مرة بعد سيل الاتهامات حول اغتيال الخاشقجي، في محاولة لتأكيد براءته من تلك الجريمة، وانه يتمتع بحرية الحركة، بلا خوف.. وهو قد زار في طريق الذهاب القاهرة وتونس، ولو لمدة ساعات، وأكمل جولته في طريق العودة عن طريق موريتانيا إلى الجزائر.
لم يأت المؤتمر الدولي في الارجنتين على ذكر القضايا العربية، وغابت فلسطين عن الخطب كما عن المقررات، ولو من باب استذكار ما يحدث لشعبها من اضطهاد وقتل وأسر وإفقار متعمد.
كذلك فهو لم يأت على ذكر اليمن والمذبحة المفتوحة فيها منذ سنوات، تم خلالها تدمير العمران في دولة الحضارة الاولى في التاريخ الإنساني..
ولا ذَكَرَ العراق الذي دمره الاحتلال الاميركي بذريعة القضاء على حاكمه الدكتاتور صدام حسين، قبل ستة عشر عاماً، والذي يعجز مجلسه النيابي الجديد عن ابتداع حكومة جديدة تخلف حكومة علاوي، بينما مختلف المدن في ارض الرافدين، بغداد ـ درة المنصور وهارون الرشيد ـ والموصل، والبصرة عند شط العرب، والنجف والكوفة والرمادي والسماوة، تغرق في فقرها وآثار الدمار التي لم تزل ماثلة للعيان، لعجز السلطة التي نهب بعض اركانها السابقين ثرواتها وتركوها خرابا.
ولا هو أشار إلى سوريا الغارقة في دمها والى جحافل العصابات التي قاتلت شعبها ودمرت عمرانها، معززة بالعدو الاسرائيلي الذي يواصل رئيس حكومته نتنياهو “فتح” العواصم العربية امام احتلاله الذي تجاوز فلسطين إلى عواصم عدة في مشرق الوطن العربي كما في مغربه.
*****
لقد تناقصت قيمة العرب كأمة اسهمت في صنع الحضارة الانسانية لعقود طويلة، حتى لتكاد تندثر.
إن “المواطنين العرب”، لأي “دولة” انتموا، يقفون على ابواب السفارات الاجنبية يطلبون “فيزا” إلى أي مكان خارج اوطانهم، طلباً لحياة “كريمة” ولو في قلب الغربة والعوز، بعدما عزّت عليهم الحياة الكريمة في بلادهم.
والتهريج عبر الحديث عن تعاظم دخل السياحة في الدول العربية ذات التاريخ، يعني ـ في حال صحته ـ أن الاجانب يأتون إلى ماضينا، بينما نذهب إلى “مستقبلنا” المجهول عندهم.
صار النفط أهم من الامة العربية بكل تاريخها،
وصار “الغاز” من عناوين الغد العربي..
اما السياسة فتكاد تنعدم في الوطن العربي حيث لا احزاب ولا جبهات سياسية بشعارات تحيي الامل بالغد، ولا نقابات عمالية تحمي حقوق من يبذل عرق الجبين في بناء بلاده، سواء لحساب “القطاع العام” او لحساب “القطاع الخاص”.
وفي غياب السياسة، كإهتمام شعبي وحق مشروع في الشأن العام كافة، وكحق طبيعي للمواطنين جميعا بعد تخطيهم حاجز “الرعاية” تصبح الدولة مجموعة من الاجهزة الامنية واللجان الاقتصادية التي تقرر في غياب “الشعب” أي “الرأي العام”.
إن القرار العربي مرتهن، سياسياً واقتصادياً، ثقافياً وفكرياً وإعلامياً..
اننا ننطق بلسان غيرنا، وابناؤنا لا يعرفون لغتهم الام، ويعرفون عن اميركا وعن اوروبا، وحتى عن الصين واليابان، أكثر مما يعرفون عن بلادهم، سواء في التاريخ او حتى في الجغرافيا، وفي الاقتصاد كما في الثقافة.
اننا بلاد لا تنتج ما يطعمها.. نستورد حتى ما كنا نصدره من فاكهة وخضار ومنتجات صناعية. نبيع النفط بثمن يقرره الغرب ثم نستورده، مكرراً، بأضعاف ثمن البيع، لنركب السيارات المستوردة، ولنلبس الثياب المستوردة، والطائرات المستوردة وصولاً إلى المياه المستوردة.
اننا نستهلك ما لا ننتج، فكيف يمكن أن نستحق مكاننا في عالم القرن الحادي والعشرين!
إن ماضينا القريب أفضل من حاضرنا، اما ماضينا البعيد فنحن أعجز من أن نحميه فكيف، اذن، نستحقه.
إن الامة بحاجة إلى نهضة شاملة تخرج من حال الهوان التي تعيشها الآن، وتثبت لها اولاً، وقبل الآخرين، جدارتها بتاريخها الذي يكاد يكون بداية النهوض الانساني، حضارة وثقافة وعمرانا، من اليمن إلى الاندلس.
هامش: في زيارة لبعض الجامعات في أوكسفورد، ببريطانيا، قال لي عميد احدى الجامعات ما مفاده “أن اول كتب كانت نواة للمكتبة الغنية في مدينة الجامعات انما جاءتها، عن طريق التهريب، من الاندلس.. وكانت باللغة العربية، وقد تعبنا لترجمتها بواسطة مستعربين جاءونا كمهاجرين”.
إن النفط والغاز ثروة طبيعية.. ولكنها لا تحيي امة، ولا تبني المستقبل الافضل، والبلاد العربية التي انعمت عليها الطبيعة بهذه الثروات أعجز من أن تستثمرها في صنع الغد الافضل، اذ أن حكامها اشباه أميين، وهم بالكاد يقرأون، ولا يعرفون شيئاً عن الغد لأنهم يعيشون في الماضي، ويتباهون بما لم ينتجوه، ويأتون بمن يبني لهم قصورهم ويخطط لغدهم في بلادهم التي لا يعرفونها كما يعرف الانسان اباه وأمه.
اننا خارج التاريخ، حتى اشعار آخر.
إن بلادنا محتلة، ومستعمرة، او مرتهنة الارادة، كما لم تكون في أي يوم من تاريخها..
إن ابناءنا لا يعرفون لغتهم ولا تاريخهم، ويخجلون بأهلهم، وينظرون إلى تاريخنا وكأنه مجموعة من الاساطير.
إننا ندفن غدنا في أمسنا، ونحاول استيراد الغد من خارج بلادنا وقدراتنا وطاقتنا على الابداع والبناء.
اننا بحاجة إلى ثورة شاملة على واقعنا، بكل أثقاله المعوقة عن اللحاق بالغد..
ولنا الأمل بأن هذه الثورة لا بد آتية، وإلا أخرجنا العصر من التاريخ!
تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية