وجهت قبل أكثر من ثماني أعوام من نفس هذا المكان نصيحة تحت عنوان تلامسوا تصحوا وتسعدوا. أعود اليوم فأؤكدها وأعيد توجيهها إلى كل الناس في كل الأعمار مع إضافة كلمتين لتصبح توخوا الحذر عند التلامس. اخترت أن أضم هذه الإضافة بعد أن تأكد لدي الانطباع بأن الحملة الناشبة ضد التحرش توسعت إلى حد صار يهدد التلامس كغريزة من غرائز الطبيعة البشرية وضرورة من ضرورات التعايش الاجتماعى وتكاثر بني البشر. توسعت الحملة وتعمقت حتى صارت حربا اختلطت في بعض معاركها النوايا الطيبة بالسيئة والعلاقات الإنسانية والعاطفية بعلاقات المنفعة وإعلانات الغضب المشروع بتهديدات الدمار الشامل.
***
صدر قبل أسابيع في بريطانيا تحذير للأطباء ألا يحاولوا تهدئة مخاوف مرضاهم باحتضانهم. قد يحدث، كما جاء في التحذير، أن مريضة تتلوى من الألم احتضنها طبيب معالج أراد تهدئة مخاوفها وتخفيف آلامها، ما إن شفيت حتى لجأت للقضاء متهمة طبيبها بالتحرش. في مكان آخر نشرت الصحف تقريرا ورد فيه أن المسؤولين عن مؤسسات رعاية الأطفال حذروا في مذكرات رسمية العاملات والعاملين والمشرفات والمشرفين في المؤسسات التابعة لهم من احتمالات تعرضهم للمساءلة وربما الاتهام بتورطهم في عمليات تحرش جنسي بالأطفال تحت الرعاية. في مكان ثالث تردد أن معلمي ومعلمات المدارس امتنعن عن لمس التلميذات والتلاميذ سواء بغرض التلقين والشرح أو بغرض العقاب. قيل إن بعض المعلمين يطلبون من تلاميذهم وتلميذاتهم تغطية الأذرع حتى الأظافر إذا كان ولا بد من أجل العملية التعليمية أن تتلامس أصابع المعلمات والمعلمين بأيادي وأذرع التلاميذ في الفصل أو في حصة الألعاب.
في دولة غربية أخرى بعثت الجمعية العامة لفرق الكشافة منشورا إلى أهالي أشبال هذه الفرق تطلب منهم صراحة عدم الطلب إلى أطفالهم، وبخاصة الفتيات، احتضان الضيوف سواء كانوا أقرباء أو جيرانا أو زملاء عمل. في هذه الدولة نفسها أجريت دراسة على أحوال المسنين وحاجاتهم الاجتماعية. اكتشف الباحثون الذين أجروا هذه الدراسة الميدانية أن أكثر من نصف مليون مسن صرحوا بأنهم لا يلمسهم إنسان على امتداد خمسة أيام في الأسبوع. غير واضح مما نشر عن هذه الدراسة إن كانت قد أجريت قبل أو بعد صدور تحذيرات للممرضين والممرضات خاصة بموجة الاتهامات بالتحرش.
***
دأبت منذ بدأ طرح قضايا التحرش بوفرة على الرأي العام في بلاد عديدة على الاستفسار بشكل دوري عن عواقب هذه الحملات على ممارسات الناس في الشوارع وأماكن العمل وفي المساكن وناقلات السفر. ترد تقارير الأصدقاء منتظمة تؤكد أنه في أسوأ الأحوال ما زالت تتدهور العلاقات بين الجنسين في معظم دوائر العمل في القطاعين الخاص والعام، وفي أحسن الأحوال تسود البرودة والحذر المتبادل، وفي معظم الأحوال تأثر سلبيا الانتاج. تقارير أخرى تصف الشوارع الرئيسة في المدن الكبيرة خلال ثلاث ساعات متصلة من المراقبة وقد خلت من حضن واحد ضم رجلين أو رجلا وامرأة أو حتى امرأتين. شوارع بلا عواطف. ذكرتني هذه التقارير بزمن قديم، وفي الحقيقة غير موغل في القدم، حين كان شبان القاهرة يمشون في شوارعها الخديوية أزواجا أزواجا، الشاب في حضن الشاب أو اليد ممسكة باليد. شوارع زاخرة بالطمأنينة. قارنتهم بشباب زمننا الراهن. لا لمس ولا تلامس بين البشر. اللمس والتلامس مسموحان فقط للهواتف الذكية. يحضنونها إن أمكن ولا خجل ويحضنون كلابهم ولن يحضنوا بعضهم بعضا خشية لومة لائم أو قضية في المحاكم.
***
“شيطنوا اللمس والتلامس”، يقول فرنسيس ماجلون الأستاذ في علوم الأعصاب والخبير في التمييز بين اللمسات. يضيف “شيطنوا اللمسة إلى حد أنها صارت سببا في استجابات هستيرية”. اللمسات تختلف في نتائجها ولكل لمسة وظيفة تختلف عن لمسة أخرى، ولكل عصب تحت الجلد نهايات متعددة. نحن نمسح بأصابعنا وبرفق متناهي وجوه وصدور أطفالنا الرضع فنتبادل معهم السعادة والطمأنينة. لمسة أخرى في نفس المكان قد تتسبب في إزعاج الطفل أو إثارة خوفه أو تضاعف شعوره بالألم. لمسة ثالثة للحكة. عند البالغين تزداد وظائف نهايات العصب ومنها الإثارة، وظيفة واحدة من وظائف عديدة. يؤكد الأستاذ ماجلون أن النقص في اللمس يمكن أن يكون مع الوقت ضارا بالصحة العقلية. وبالعكس مفيد جدا ليس فقط للبشر ولكن أيضا للحيوانات الأليفة الوفرة في اللمسات العاطفية والناعمة. لاحظت بنفسي ولست طبيبا أو خبيرا أن البيت الذي يمارس أهله فيما بينهم ومع قططهم وكلابهم اللمس الناعم والهادئ بيت أسعد من بيت احتضن كل فرد فيه هاتفه الذكي معظم الوقت.
***
يحذر أطباء نفسيون من شيطنة اللمس. ينصحون بعدم المبالغة في تلقين الأطفال الامتناع عن ملامسة الغرباء. يكبر هؤلاء الأطفال شبانا وشابات ناضجات فتأتيهم اللمسة البريئة كصاعقة كهربية تهزهم حتى الأعماق وقد تتسبب في صدمة عقلية تمتد آثارها سنوات عديدة في عمر الإنسان. وقد أثبتت دراسات حديثة أن الأطفال الذين تحرمهم ظروفهم من اللمس ينشأون عدوانيين. يضربون المثل بالأحوال العقلية للأطفال اليتامى الذين أودعوا ملجأ في عصر الدكتاتور تشاوسيسكو، عاشوا محرومين من كل معاملة إنسانية وعاطفية، عاشوا حياة قمع وفساد وبدون لمسة حنان واحدة. من ناحية أخرى اكتشف الباحثون أن نسبة معتبرة من الأطفال الذين عاشوا في ملاجئ أو عائلات محرومين من اللمس العاطفي أو من الذي أدمنوا الالتصاق بالهواتف الذكية، هؤلاء أدمنوا في شبابهم المخدرات والكحوليات.
***
تأملت بالتبجيل والإكبار ما تناقلته أجهزة الميديا بخصوص ما قام به ناظر المدرسة التي وقعت فيها مؤخرا جريمة قتل جماعي وراح ضحيتها عدد من الطلبة والطالبات. جمع الناظر جميع الطلبة والطالبات وعددهم 3300 واحتضنهم واحدا بعد الآخر وفي عينيه دموع الأسى والتعاطف. لا شك في أن هذه الأحضان جاءت تلبية لنصيحة من خبير في اللمس والأحضان أراد أن يخفف آلام مدينة مكلومة وأمة تذرف الدموع. هنا كانت اللمسة، وإن جماعية، ضرورية لاستعادة عافية المدرسة بأساتذتها وطلابها.
ستيفاني فيلد أنشأت في مدينة ميامي بولاية فلوريدا معهدا لبحوث اللمس تابعا لجامعة ميامي بهدف التعمق في دراسة أسباب فقدان حاسة اللمس وآثاره على الصحة. المثير أن ستيفاني طرحت نفسها نموذجا دراسيا. خضعت للتدليك عن طريق لمسات متنوعة وراحت تسجل الآثار الإيجابية. اكتشفت أن تحريك الجلد باللمس الخفيف يقلل من سرعة ضربات القلب ويخفض معدل ضغط الدم. اكتشفت أيضا أن هذا اللمس يزيد من خلايا المناعة التي تتصدى للفيروسات المعادية وتشجع على إفراز مادة كيماوية حيوية لصد الاكتئاب وتساعد على النوم العميق. في الوقت نفسه قيل إن دراسة خرجت من جامعة لندن بإنجلترا تؤكد أن «الطبطبة» ولو من يد غريبة خفضت كثيرا من درجة الشعور بالعزلة الاجتماعية الذي يصيب أطفالا وكبارا تخلَّى أو ابتعد عنهم أهاليهم وأحبابهم.
***
ازدهرت في الآونة الأخيرة في بعض دول الغرب وأمريكا بخاصة تجارة الأحضان. أنشئت شركات تقدم خدمات تعوض عن النقص في تلبية حاجة الناس إلى اللمس نتيجة التصعيد الهائل في الحملة المثارة حول جرائم التحرش. تضم هذه الشركات خبراء متخصصين في تشخيص الحالات المستعصية وتقديم العلاج. يتراوح العلاج بين إقامة حفلات اجتماعية وعقد فصول جماعية لتلقين فوائد اللمس وتبادل الأحضان وتنظيم ورش عمل لتبادل التجارب الشخصية. يذكرون في دعاياتهم الدور الإيجابي والإنساني للأميرة ديانا بإصرارها على أن تمسك بأيدي مرضى الإيدز في مستشفى كانت تزوره. يذكرون أيضا قصة أوباما مع طفل محروم من اللمس حين انحنى أمامه واضعا يد الطفل فوق رأسه وعلى وجهه. لم يفتنى متابعة ردود فعل الأسرة المالكة في بريطانيا لتفضيل خطيبة الأمير هاري احتضان الضيوف على مصافحتهم باليد. أما في اليابان فكانوا كعادتهم عمليين إذ صمموا مقعدا بذراعين تحتضنان من يجلس فيه.
***
خذوا حذركم ولكن لا تقصروا في التلامس. لا تسايروا المبالغة في حملات التحرش فضحيتها الأولى فقدان الملامسة وبعدها فقدان حاسة اللمس ومعها عجز في الصحة العقلية والتوازن الضروري لإنسان صحيح. مارسوا اللمس والأحضان بعاطفة صادقة، فالحضن لكي يؤثر إيجابيا يجب ألا يأخذ شكل التنازل أو التفضل أو أداء واجب. لا تقل لطفل أو لشخص ناضج تعالى أحضنك أو تعالى احضني. قل “تعالى نحضن بعض”.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق