أتصور أنه لو استمر الرئيس دونالد ترامب في منصبه سبع سنوات أخرى أو حتى ثلاثة فسوف يسجل له التاريخ أنه الرئيس الذي يستحق بجدارة صفة المخرب الأعظم في النظام الدولي. لقد أثار الرجل في سنة واحدة قضاها في البيت الأبيض اضطرابا ملموسا في العلاقات الدولية، ودفع العديد من الدول إلى إعادة تقييم سياساتها الخارجية وشجعها على تجاوز حدود وقواعد عمل كانت مألوفة وتبني أفكارا عنصرية وتخلي عن قيم وأخلاقيات كانت معهودة.
***
سمعت من يتحدث عن ألغاز في العلاقات الراهنة بين أمريكا ودول أخرى لم يفلح الكثيرون في حلها أو فهمها. من هذه الألغاز لغز العلاقة الطيبة التي قامت بين الرئيس ترامب وكل من الرؤساء فلاديمير بوتين وإيمانويل ماكرون وعبد الفتاح السيسي. منها أيضا لغز العلاقة غير الطيبة التي قامت بينه وكل من السيدة تيريزا ماي والسيدة آنجيلا ميركيل والرئيس الصيني شي جينبنج.
أقرأ الآن عن ظواهر في البيت الأبيض تحدث لأول مرة وأغلبها يكاد يكون في حكم الألغاز بسبب صعوبة فهمه أوتفسيره أو تبريره. منها على سبيل المثال وجود أشخاص في مناصب حساسة وأشخاص يتعاملون مع وثائق ومعلومات خطيرة لم يحصل أكثرهم على ترخيص أمني مناسب. وجود شخص في البيت الأبيض بهذه الصفة والمسؤولية يعمل بدون موافقة من أجهزة الأمن الداخلي كان يمكن في عهود سابقة أن يتسبب في أزمة للرئيس. منها، أقصد من الظواهر الجديدة في البيت الأبيض والمتصلة اتصالا وثيقا بعمليات صنع السياسة الخارجية ظاهرة رئيس الدولة الذي يستخدم تغريداته الصباحية لإبداء رأيه في رئيس دولة أخرى أو سياساته. كثير من المعلقين ومتابعي عمل الرئاسة وصفوا هذه العادة بأنها انفلات وفي النهاية تخريب لسمعة أمريكا وقيمة قرارتها.
يرتبط بهذه الظاهرة ظاهرة وجود عدد لا بأس به من “الجنرالات العظام” في البيت الأبيض. قيل إنهم يقومون بدور “المنظم” في الآلة الرئاسية، يصححون تجاوزات الرئيس الضارة بأمن أمريكا ودفاعاتها. على كل حال يبقى وجودهم واستمرارهم وحجم نفوذهم الحقيقي ومستقبلهم موضع تخمينات.
***
الحديث عن الألغاز في علاقات الرئيس برؤساء أجانب وعن ظواهر غير مألوفة في عمل البيت الأبيض ليس ترفا على هامش تحليل السياسة الخارجية الأمريكية أو التعليق عليها. أتصور أنه لم يعد ممكنا وربما غير جائز دراسة حال علاقة بين أمريكا ودولة أخرى بدون الأخذ في الاعتبار تأثير بعض هذه الألغاز والظواهر. نأخذ العلاقة الأمريكية الفرنسية الراهنة ونحاول تتبع الدور الذي يلعبه البيت الأبيض بكل مؤثراته وظواهره الجديدة على هذه العلاقة. نلاحظ من خلال المتابعة أولا: أن الرئيس ماكرون استطاع بمهارة فائقة الاستفادة لفرنسا ولأوروبا أيضا من وجود ترامب في البيت الأبيض. جاء ترامب إلى البيت الأبيض رافعا شعار عدم التدخل المكلف ماديا في أي شأن من شؤون أوروبا أو غيرها. جاء في واقع الأمر مكملا لمسيرة بدأها الرئيس السابق باراك أوباما، كلاهما أفسح المجال لقيادة جديدة في أوروبا تملأ الفراغ الذي خلفه الانسحاب الأمريكي. بهذا المعنى كان ترامب الزاهد في القيادة الدولية فرصة لا تعوض لماكرون.
لا شك أنه كان من حسن حظ الرئيس الفرنسي أن بريطانيا خرجت من أوروبا تاركة مقعد قيادة شديد الأهمية. خروج بريطانيا يعنى في الوقت نفسه إخلاء الساحة الأوروبية من معارض قوي لفكرة الوحدة الأوروبية ومنافس تقليدي للنفوذ الفرنسي. من حسن حظه أيضا انشغال السيدة آنجيلا ميركيل عن مسؤولياتها القيادية فى الاتحاد الأوروبي بانتخابات برلمانية شديدة التعقيد. فرصة لا تعوض حانت لماكرون لينفذ فكرة استقلال الكيان الأوروبي كقوة سياسية عالمية، كانت حلما للجنرال ديجول ليتخلص بها من الهيمنة الأمريكية.
يريد ماكرون إقامة قوة دفاع أوروبية مستندا الآن إلى دعم الرئيس ترامب الذي لا يكف عن مطالبة أوروبا بالمساهمة في تحمل تكاليف الدفاع. نرى أمامنا الآن فرنسا تقود قوة دفاع من خمسة دول تعمل في إفريقيا. هذه القوة لا تخضع لبروكسل والبيروقراطية المتحكمة أو المقيدة لأفكار من هذا النوع. بدأت كمبادرة فرنسية للتدخل السريع متحررة من قواعد التصويت في الاتحاد الأوروبي. أهداف المبادرة متعددة فإلى جانب إنها تسعى لإبراز مكانة لأوروبا ودورها الجديد في الساحة العالمية، كانت المبادرة وما تزال فرصة لبريطانيا لتشارك في أنشطة أوروبية تختارها ولا تفرض عليها. أوروبا في كل الأحوال لا تريد عزل بريطانيا أو تشجيعها للدخول في منافسة مع الاتحاد الأوروبي في إفريقيا والشرق الأوسط. كذلك فإن من بين أهداف مبادرة التدخل السريع العمل على وقف سيول هجرة الأفارقة إلى القارة الأوروبية.
***
بدون شك كبير نستطيع القول بأن الرئيس ماكرون نجح في شهور قليلة في نقل فرنسا إلى الصف الأول للدول القائدة في العالم. لا نقول أنه نجح بجهد أو نفوذ الرئيس الأمريكي الجديد، ولكن بفضل إجادته فن انتهاز “الفرصة الترامباوية” في اللحظة المعاصرة. لقد تسبب الرئيس ترامب بسياسات وتصرفاته غير العادية وغير التقليدية في إفراغ السياسة الخارجية الأمريكية من أحد أهم عناصر قوتها، أقصد عنصر القوة الناعمة هذه القوة التي تقف على أربع:
أولها: الهجرة. باعتبار أمريكا في الأساس دولة مهاجرين، ويريد ترامب تقييد هذا المفهوم بحيث ينطبق على شعوب معينة في شمال أوروبا.
ثانيها: الحلم الأمريكي. لم يكن شعارا فحسب بل كان أملا للكثيرين في شتى أنحاء العالم وشتى الثقافات والأديان. توقفت أمريكا الرسمية عن رفع هذا الشعار تحت ضغظ الأزمات الاقتصادية وغموض رؤى المستقبل. توقفت أيضا تحت ضغوط ترامب الكلامية والعنصرية.
ثالثها: قيم الحرية والعدالة واحترام حقوق الإنسان. هذه جميعها تعرضت للإهمال المتعمد من جانب ترامب وحكومته. انسحب من اتفاقية المناخ ودعم حكومات ترفض التزام حماية حريات الناس السياسية والفكرية. هو نفسه وقف إلى جانب البيض المتطرفين ضد السود وإلى جانب المتحرشين في البيت الأبيض بالنساء وأهان المرأة عامدا متعمدا في أكثر من مناسبة وشن حربا “وحشية” ضد الصحافة وغيرها من وسائط الاتصال والتعبير.
رابعها: الدبلوماسية الأمريكية. هذه الدبلوماسية أحببناها أو كرهناها كانت وراء أحداث وتطورات تاريخية، ليس أقلها شأنا إقامة نظام دولي عتيد على أنقاض نظام قضت عليه الحرب العالمية الثانية. ترامب لا يحبها وكرئيس لا يدعمها بل وتركها تتهاوى أمام دبلوماسيات العالم دون أن يحرك ساكنا.
***
يستطيع ماكرون أن يقدم نفسه للعالم الخارجي بالقائد السياسي الذي استفاد أكثر من غيره من وجود ترامب على رأس الدولة الأعظم في العالم. الآن يتعين عليه أن ينتظر عودة آنجيلا ميركيل إلى مكان مخصص لها حتى وإن عادت مثخنة بجراح تسببت فيها الحملة الانتخابية. معا تستطيع ألمانيا وفرنسا التعويض عن بعض الفراغ الذي نتج عن انحدار أمريكا وسياسات ترامب. يستطيعان أيضا، وإن بصعوبة، اللحاق بالركب الروسي في الشرق الأوسط وبالركب الصيني في إفريقيا وأمريكا اللاتينية.
لدي الرئيس إيمانويل ماكرون حلم: أن يستمر ترامب رئيسا أمريكيا لدورتين.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق