في روما، ليس بعيدا عن الفاتيكان ورأس الكنيسة الكاثوليكية فيه، وبدعوة من »تحالف الزيتون« الذي يضم الشيوعيين والاشتراكيين في ايطاليا، جمعتنا مصادفة قدرية للحديث في موضوع واحد هو »الاسلام« وليس بيننا »إسلامي« واحد.
كنا ستة رجال وامرأة من العرب لا يتبنى اي منا شعار »الاسلام هو الحل« وان كنا بمجموعنا نؤمن ان الاستغلال السياسي للشعار الاسلامي في دنيانا العربية هو في هذه اللحظة بالذات، الوجه الأبرز للمعضلة الوجودية التي تفرض نفسها علينا بأشكال متعددة فنهرب من مواجهتها بادعاءات وأعذار شتى.
قال الماركسي المصري العريق ان الاسلام عقيدة تكرم الانسان، وان تحويله الى حزب إساءة بالغة اليه، فكيف اذا ما صار تنظيما سريا؟! وانه دين أرسل الى الناس كافة في كل الارض، فالنزول به تحت الأرض يتنافى مع طبيعته، بل ويجعل المتسببين في حجبه عن الناس أعداء للاسلام والمسلمين معا..
وقال الاستاذ الفلسطيني القادم من الأرض المحتلة ان الربط بين الاسلام والسلطة يضر بالاسلام ولا ينفع السلطة، وان الحركات التي ترفع شعار الاسلام انما تقصد السلطة ولا يضيرها ان تجتاح في الطريق اليها الاسلام والمسلمين،
وقالت الصحافية الجزائرية الهاربة الى فيء الحرية في فرنسا ان إرهاب الاسلاميين في بلادها قد الجأ مسلميها الى مستعمرهم القديم الذي آذاهم اكثر ما آذاهم في إسلامهم وفي لغتهم القومية (العربية).
اما الباحث الاردني فقد تحدث عن »إسلام ملكي« غير »إسلام الشوارع« وقدم نماذج من الاساءات التي ألحقها الاعلام الغربي بالاسلام ليقدم بالمقابل درسا في كيفية احتواء الحركات الاسلامية وتدجينها على يد »الهاشميين« الذين يظلون »أشرافا« حتى لو رطنوا بالانكليزية وأقاموا من انفسهم محامي دفاع للتطرف الاسرائيلي الذي يعاملونه وكأنه »الحليف الأقرب«،
وقال اليساري المصري المتحدر من أسيوط ان الغرب قد صدر الينا إسلاما غير الاسلام الذي جاء به الرسول العربي، وان أنماط »الاسلاميين« الذين يزرعون الارهاب في كل أرض ليسوا فعليا من اهل القرآن، ولا بد من محاسبتهم كقوى أو ربما كعصابات وليس كمؤمنين يحققون كلمة الله،
اما الصحافي القادم من بيروت فقد استشهد بتجربة لبنان ليقول ان »الاسلامية« فيه نتيجة ورد فعل وليس نبتا طبيعيا، وان ليس لها من الدين الا الشعار تماما كما ان »المسيحية السياسية« قاتلت وتقاتل من أجل السلطة وليس من أجل نشر او تعميم رسالة السيد المسيح،
واما الاكاديمي العراقي اللاجئ الى بريطانيا من قبل ان يبيض شعر لحيته الخفيفة فقال ان الاسلاميين يصورون للعالم وكأن ثمة أديانا إسلامية وليس اسلاما واحدا، وان »الاسلامية« بضاعة رائجة الآن، لا سيما بعد سقوط الشيوعية تتوسلها معظم الأنظمة القائمة بين اسطنبول والرباط، خصوصا تركيا لاعادة الاعتبار الى الطورانية باستغلال اللسان التركي الناطقة به اغلبية الشعوب الاسلامية التي كانت تنتظمها »دول« في إطار الاتحاد السوفياتي.
عال… نجحنا في الفحص مع الطليان!
اما حين جلس واحدنا الى الآخر، وتلاقينا الى مائدة العشاء، فقد تبين اننا، بدورنا، لا نتحدث عن »إسلام« واحد.
الجميع مسلمون، من حيث المبدأ، او من حيث »الهوية«، لكن لكل منا »إسلامه«، حتى لو كانت الاكثرية من بيننا غير متدينة، ولعل بيننا من يرفض ان يتم التعاطي معه كمسلم.
الكل ضد »الاسلاميين« كنهج سياسي، وضد إرهابهم الفردي او الجماعي، وضد ما يراه »ظلامية« في تفكيرهم وفي خطابهم السياسي، وفي اختطافهم للاسلام واتخاذه رهينة يتوسلونه الى السلطة والى الهيمنة على من يخالفهم الرأي، ان بتكفيره وإباحة دمه او باستعباده وفرض مفهومهم المتخلف والمجافي لإنسانيته ولأبسط حقوقه كمخلوق كرمه الله فنفخ فيه من روحه.
أي إسلام لأي عصر؟!
مع المباسطة كان لا بد من التوقف عند بعض الحقائق الموجعة، ومنها:
1 ان الاكثرية الساحقة من المسلمين هم من الاميين، تستوي في ذلك الأقطار العربية مع الدول ذات الغالبية الاسلامية.
2 ان »الاسلام« الذين يدين به مئات الملايين من البشر قد وصلهم بالوراثة او بالنقل غير الأمين، اذا حسنت النية، لان ناقله جاهل أو انه بالكاد يفك الحرف، او انه وصله مشوها عبر أجهزة ووسطاء غير أبرياء،
للمثال فقط استذكر نموذج »الاسلام الافغاني« الذي تربى في أحضان المخابرات المركزية الاميركية (ومخابرات غربية اخرى، بريطانية، المانية، فرنسية، مع بعض الدعم من انظمة عربية ترفع راية الاسلام، وكانت تفضله اميركيا للتحصن ضد النفوذ الشيوعي).
3 ان إرهاب الاسلاميين، لا سيما الاكثر تطرفا، لم يوجه يوما ضد الاميركيين او خاصة ضد الاسرائيليين، سواء داخل الأرض العربية المحتلة او خارجها،
4 ان إرهاب الاسلاميين يتركز، اكثر ما يتركز، ضد المستنيرين من المسلمين، الذين يبذلون جهدا فكريا متميزا لإعادة تفسير الاسلام بما يحقق مصالحة تاريخية بينه وبين العصر، ويجعله دينا للحياة وليس مجرد طقوس وشعوذات وتلفيقات تشوه صورة الاسلام وتخرج المسلمين من العصر ومن الحياة محببة اليهم الموت وكأنه أقصر الطرق بل ربما الطريق الوحيد الى الإيمان.
عندما خرجنا الى الهواء الطلق كانت قبة الفاتيكان تتشح بهالة من النور، في حين يرقد »الحبر الاعظم« هانئا في غرفة نومه، فوق المدفن البارد للقديس بطرس، الذي كان »الصخرة التي بنيت عليها الكنيسة«، والذي يجاوره الآن مجموعة البابوات الذين كانوا ذات يوم أعظم حكام الأرض مجداً وغنى وسلطة مطلقة، والذي يتبدى آخرهم الآن في صورة »معبود الشباب« الذي كان هاربا من الدين فأعادهم الى الكنيسة متوسلا آخر مبتكرات العصر من الانترنيت الى موسيقى البوب والجاز، ومتخلياً عن كثير من الشكليات والمراسم (والثياب) التي كانت تجعل الدين وقفا على العجايز ينتهي برحيلهم عن هذه الدنيا الفانية.
… وكانت روما القديمة تطل بوقارها الذي يعبث به الآن شبابها ويبيعونه كسلعة للسياح، ومعه تراث الفاشية من شباك موسوليني الشهير الى ضريح الجندي المجهول الى مدينة »اور« التي كان يريد ان يجعلها عاصمة العالم الروماني الجديد،
وكانت ثمة مسلتان فرعونيتان مسروقتين من مصر، ضمن المجموعات الهائلة التي نهبها المستعمرون من مصر وتوزعوها في متاحفهم، تقفان، احداهما في باحة الكاتردائية الافخم في الدنيا (كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان) والثانية في »ساحة الشعب« بياتزا دل بوبولو فتجددان عند هواة الاساطير التاريخية حكاية العشق الشهيرة بين كليوباطرا ومارك انطونيو، بينما المتبرع بدور الدليل السياحي يرشدنا الى حيث كان »المؤمنون من أوائل المسيحيين« يقدمون طعاما للضواري المجوعة قصدا لكي تلتهمهم في سراديب الكولوزيوم الشهير الذي يباع الآن كبطاقة بريدية، ويقف عند أبوابه السواح ليتصوروا وقد رسموا فوق شفاههم تلك الابتسامة البلهاء!
… قبل اسبوع فقط كنت قد سعيت الى البيت الحرام، في مكة المكرمة، مستفيدا من وجودي في زيارة قصيرة الى جدة لعمل يهم »السفير«. وكان يصحبني دليل دمث الاخلاق، عظيم التدين، واسع الثقافة، ويتحدر من أشراف مكة.أنهينا الطواف، وصلينا المغرب في الكعبة المشرفة، وعند الخروج اكتشف ان حذاءه قد سرق، فهتف بحرقة بالغة: حتى في بيت الله الحرام؟
وحين انتبه الي قال معتذرا: لعله احد الاخوة المؤمنين قد أخذ حذائي خطأ.
لم أرد. وأشفقت عليه وهو يجول في السوق باحثا عن دكان يبيع أي نوع من »المشايات« لكي لا يعود الى بيته حافيا.
… في صباحنا الاخير في روما، عاد الينا بعض رفاق الرحلة من جولة سياحية في الفاتيكان مبهورين!
كانوا يستذكرون مشهد حب بين عاشقين، في بعض أفياء تلك الكاتدرائية المتحف، واقترب احد منظمي الرحلة ليسألهم قلقا: هل نشلتم؟! فلما طمأنوه الى انهم انما يتحدثون عن العشاق، قال: الفاتيكان، عند النشالين المحترفين أفضل »ملطش« لسرقة حقائب يد السيدات او محافظ نقود الرجال المؤمنين، كما انها أنسب مكان يتصيد فيه الشبان الايطاليون بوسامتهم وحيلهم العديدة الصبايا من السياح، ولكنهم سرعان ما يتركونهن اذا اكتشفوا أنهن لا يحملن مبالغ مجزية من العملات الصعبة.
التفت واحدنا الى الآخر، وقال أعظمنا خبرة يلخص الرحلة: الإيمان واحد والمؤمنون متعددو الأنواع.. اما تجار الإيمان فهم الأعظم انتفاعا بأي دين، في كل مكان وزمان.
قسمة ضيزى
وقفت المضيفة في قلب الضجر وكأنها استفاقت للتو من حلم لم تكن تريد له نهاية سريعة.
لم يكن بين الركاب من يستحق نظرة. كانوا منصرفين عنها وهي تشرح القواعد الرتيبة لربط الحزام والتنفس عبر كمامة الاوكسجين، وبإرشادات السلامة في حال سقوط الطائرة فوق البحر.
لا هي كانت معنية بما يردده الشريط المسجل بصوت غليظ مدبب النبرات، ولا الركاب، خصوصا ذلك الذي كان يتابعها بنظره مفصحاً عن تقديره لجمالها وللنضج الذي كان يضج به جسدها، ولا ينقص من إعجابه ضجرها بل لعله كان يزيد من الشهية.
بعد حين جاء دوره لتسأله: أتفضل الدجاج أم اللحم؟
قالت عيناه: بل أنت!
أما لسانه فقال: لا أريد عشاء!
استغربت، فأشار الى كأسه: زيديني كلما نقص!
فكر وحاول أن يستدرك: زيديني كلما نقصت!
قرأ في عينيها جوابا لم يعجبه: أريد من يزيدني لا من يأخذ مني!
تأخر الوقت. لم يعد يملك ان يصحح ما قرره الزمان. حاول التعويض بنظره! ماذا يفعل النظر بجسد يتفجر شهوة!ارتد اليه بصره خائبا في حين تشاوفت عليه بنظرة من خلف كتفها أربكته تماما.
بعد حوالى الساعة جاءت تسأله: أتريدني أن أزيدك… شرابا!
لم يملك أن يرفض. هز رأسه موافقا، برغم انه كان قد ارتوى.
عادت تلح عليه: لن تتعشى أبدا؟! خذ شيئا خفيفا.. بعض الأجبان، مثلا، او بعض الفواكه..
نظر إليها كمن يستغيث: كفي عن تعذيبي! إياك أريد ولست في قائمة الطعام!
مالت عليه وهي تقول: أتريده واحدا أم كأساً مزدوجاً؟!
هرب بعينيه وهز برأسه تاركا لها ان تفهم وان تقرر..
وفوجئ بها بعد حين تأتيه بقهوة لم يطلبها. قالت: هذا لأجل زوجتك! تحب الزوجة ان تفترض ان رجلها لم يفكر ولا يفكر إلا فيها مهما غابت عنه!
قبل ان يستجمع الكلمات للرد عليها كانت قد انصرفت ساحبة معها عينيه وبعض أفكاره المستحيلة..
بعد لحظات جاءته بهدية نصحته بأن يشتريها لزوجته.. ولم يملك ان يرفض، ولم يكن لديها اكثر لتبيعه..
وهكذا اشترى ما لا يحتاجه وباعت ما لا يقدمه لها أحد، وكانت قسمة ضيزى!
تهويمات
} تعبت من محاكمة نفسي كل يوم: لماذا أغفل عن دنياي وأنا أسعى إليك؟! دنياي… وأين هي إن أنا غفلت عنك!
} قالت له مغضبة: سأظل أعذبك بي لتبدل رأيك في النساء.. سأجعلك تمشي إلي على حطام غرورك الرجالي حتى تصلني طفلا تائها لا يعرف له إسما. وعندها أعلمك الأسماء جميعا وأجعلك رجلا تليق بعشق واحدة من النساء.
} تحبني تافهة؟! وأحبك عظيماً.
ألا وقت لديك للتفاهة… لذا تهرب مني؟
مع حبك لا أبقى تافهة. الحب يرفع الوضيع ويلغي الفروق. المحب أعظم من ملك. سيد الدنيا عاشق ومعشوق.
} منذ ان عرفها هجر الصراخ.
قال انها تسكن الهمسة، وانه يريد ان يبني عمره داخل شفتيها.
} قالت: لم أسمع منك أبدا كلمة »أحبك« مع ان الحب ثرثار ونرجسي لا يملّ الحديث عن نفسه، أخشى أنك »تحبك« ولا تحبني أنا!
} قالت لهما مضيفة الطائرة من خلال ابتسامة عريضة: لا بد أنكما عروسان، أعرف هذا النوع من السعادة الغامرة. حماكما الله على الأرض ومن الأرض.
وردت عليها، قبله: على الأرض السعادة، وهذه إجازة لنا منها!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
ليس الحب ملجأ نهرب اليه من مسؤوليات الحياة. انه مصدر الأمان والمنارة التي تضيء لنا الوجه الجميل للحياة. انما نحب لأننا أبناء الحياة، وبالحب ننهض بحياتنا الى الأسمى والأفضل والأكمل. الحب ليس عذرا للتنصل من مسؤولياتنا، بل هو يمدنا بالزخم لأن ننجز ما كنا نراه قبله مستحيلا.