طلال سلمان

بلند الدمث وبغداد الحاضرة والعراق المنفي..

صعبة هي مصادقة الشعراء.
انك معهم في امتحان دائم لذكائك، لقدرتك على الاستشفاف وقراءة الغيب.
وأنت معهم في تجربة مفتوحة لقدرتك على تحمل التقلبات والمفاجآت والتحولات في المزاج، بغير سبب ظاهر او مقنع.
ثم انهم يفرضون عليك دائما ان تتصرف، وانت أصغرهم سنا، وكأنك »الاب الصالح«، فاذا حاولت تقمص هذا الدور، فوجئت بهم يعاملونك وكأنك الطفل الغر، وهم منك في موقع الآباء المبجلين.
ولطالما شهدت المقاهي في بيروت ودمشق، في بغداد والقاهرة، في الرباط وطرابلس الغرب، وفي »المبارز« ومجالس القات في صنعاء، معارك شرسة في ما بين الشعراء والشعراء، او بين الشاعر الكبير وبعض مريديه او المعجبين به، تارة بسبب رأي واخرى بسبب تعبير غير موفق وثالثة بسبب من اسم المريد!
بين القلة من الشعراء الذين كانوا قادرين دائما على ضبط مزاجهم، الشاعر الذي فقدناه قبل أيام: بلند الحيدري.
كان دمثاً الى أقصى حدود الرقة، لكن دماثته لم تكن تطمس او تلغي صلابته في قناعاته.
لقد تجمعت فيه رهافة الحس واللياقة التي تبلغ ذروتها لدى العراقي مشكلة »الوجه الآخر« لما اشتهر عن العراقيين من حدة الطبع وشراسة رد الفعل.
وطوال فترة تعاونه معنا في »السفير« نجح في تقديم نفسه الينا والى الآخرين كصديق للجميع ومعتز بصداقاته، ولكنه بلا خصوم حتى بين اولئك الذين يختلف معهم في الرأي السياسي او في المنحى الادبي عموما، وفي المذهب الشعري خصوصا.
لم يكن »ادب المنفى« وحده، وهو آنذاك لم يكن منفيا، بل كان مبتعدا عن لعبة السلطة في بغداد.
ومن لم يعرف العراقيين في بغداد ومعها تظل معرفته بهم وبالعراق ناقصة، فبغداد لهم كما القاهرة للمصري، وكما دمشق للسوري اكثر من عاصمة، وأعظم من ان تكون اختزالا للبلد: انها منطلق الحلم الى تحقيق الذات على المستوى الشخصي، كما على المستوى الوطني القومي الاممي.
لا تستطيع ان ترى أيا من عواصم الدنيا هذه من خارج التاريخ. كيف تنزع عن بغداد انفاس شعراء العصر العباسي وخلفائه؟! كيف لا تحف بك وانت فيها أطياف ابي جعفر المنصور وهارون الرشيد والمأمون، وكيف لا يصحبك ابو نواس في رحلة مفتوحة الآفاق في أخيلته وفي تمرداته وفي مجونه؟! وأنّى يكون الفرار من أعظم شعراء العربية، ذلك المترع بالطموح المكسور الكبرياء بذله امام السلطة، المتنبي؟!
بغداد في القلب، في العقل، في المخيلة، في الأوردة، في النصر والمجد، في الانكسار امام التحولات، في عمق القهر الذي ارجعك من موقعك المفترض في الطليعة الى الحضيض ليسقط عنك اهليتك، فارضا عليك التمزق بين ماضيك الذي لا يطاله خيالك وبين حاضرك الذي لا تطاله يداك، وبين مستقبلك الذي لا يطاله التمني، وانت مسحوق بينها بالعجز المتراكم والمتفاقم في كل لحظة!
أأنت الكبير المبدع الباني السامق فخارا، ام أنت هذا المطارَد بالهزيمة حتى في أحلامك؟؟
أأنت في اولئك الذين استبقت الكتب مآثرهم وانجازاتهم، ام انت خارجهم ولا مجال للقاء؟!
بلند الحيدري صفحة تعكس كل ذلك التمزق بين القدرة المعطلة والعجز المبرر ذاته بتجاوز القدرة نطاق المعقول صعودا وهبوطا.
رحل بلند، لكن العراق ما زال منفيا ينتظر أهله.

 

حوار الجدران

قال الجدار للجدار: أتمنى ان يعلقوا على صدري قرار المجلس الدستوري.
رد الجدار على الجدار: الدستور، مثلنا، يعلقون عليه صورهم فيطمسون معناه.
* * *
قال الجدار للجدار: هل سمعت ما أسمع؟! إن بعض الصور تتأوه متلذذة حين تُعلَّق فوقها صور أخرى…
رد الجدار على الجدار: اللذة في الأسفل! عندي من يعيش أحلى لحظة عمره، لان فوقه، حتى الآن، خمسة!
* * *
قال الجدار للجدار: في بلاد الناس لا يلصقون على مثلنا الا صور المطلوبين..
رد الجدار على الجدار: دعنا نفترضْ اننا في بلاد الناس..
* * *
قال الجدار للجدار: كل الذين رموهم عليّ من الوزن الثقيل. سمعت بعضهم يتجشأ.
رد الجدار على الجدار: ليس بينهم شبعان واحد. كلهم يتضورون جوعا، وبحسب أوزانهم سيأكلون!
* * *
قال الجدار للجدار: من يراك يظن ان في البلاد حفلة تنكرية..
رد الجدار على الجدار: نحن الآن المتنكرون. هكذا هي السياسة الكذبة تطمس كذبة لتستولد كذبة ثالثة!
* * *
قال الجدار للجدار: لقد نقلوا صراعاتهم الينا. ما ان يغيب مَن ألصق الصور حتى يأتي الذين يمزقونها! لماذا يفسدون علينا براءتنا؟! لماذا يزجون بنا في ألاعيب السياسة ودهاليزها المعتمة؟!
رد الجدار على الجدار: في أي حال، فان الكل يأتي في الليل. كلهم يخافون عيون الناس وضوء النهار!
* * *
قال الجدار للجدار: لم يحترموا الاموات الذين أحجز بينهم وبين الاحياء.
رد الجدار على الجدار: بل لقد جاءوا اليهم هنا اعترافا بجميلهم. ان من خلفك قد »ورثوا« أصواتهم لمن امامك. بهؤلاء سيفوز أولئك!

 

نهاية الإذلال الأولمبي المبهج!

الحمد لله! لقد انتهت دورة الالعاب الاولمبية، وارتاح الكثيرون من الاذلال اليومي الممتع والمبهج الى حد استيلاد المعارك مع »الخصوم«!
ومبعث الراحة هو انتهاء ذلك الامتحان اليومي الذي يكشف كم ان واحدنا عاجز وناقص الاهلية!
كالسحرة كانوا يتناولون كل ما لا نقدر عليه.
ان هم سبحوا كدنا نخرج من البحر لنداري خجلنا في القاعات المقفلة،
وان هم رموا الرمح او القرص لبسنا قمصانا بأكمام طويلة لنداري هزال عضلاتنا وعجز الزنود،
وان هم ركضوا تشاغلنا عن سرعتهم بأحاديث ممجوجة عن أصناف الاحذية التي ينتعلون، وكأنها هي صانعة انتصاراتهم المذهلة.
يتطاولون فنقصر، يتألقون فيخيم علينا ليل الحسرة، يتجاوزون الارقام القياسية فنبلع ريقنا ونحن نداري خطواتنا المتعثرة حتى لا نسقط!
انهم يفضحون عيوبنا التكوينية وقصورنا،
لكنهم يمتعوننا حتى ونحن نتجرع مرارة القصور.
على الأقل ثمة من يفعل ما نتشهى ان نفعله،
على الاقل ثمة من يكسر »الحدود« التي نقع خلفها لاننا لا نجرؤ ولا نملك القدرة على تخطيها.
على الاقل ثمة من يفتح الابواب الموصدة ويقول إن بالامكان ان نقتحم ما كنا نفترضه خارج الإمكان،
وفي »تواطؤ« ينسجه خيالنا معهم نرتاح الى افتراضنا انهم انما يفعلون ذلك باسمنا ولأجلنا… ولو في اجيالنا الآتية!
حاشية: في السنوات الاخيرة تعاظمت ظاهرة الاستعانة بالعبقرية الاجنبية حتى في مجال الرقص،
وكان ذلك استفزازا غير مبرر. فاذا كنا لا نملك من العقول ما يكفي فاننا بالتأكيد نملك ما يكفي من الاقدام..
الحمد لله ان غادة شعاع وحسيبة قد اعادا الاعتبار الى الاقدام (والزنود) العربية،
ولم يتبق علينا الا اعادة الاعتبار الى الرأس العربية!

 

من رسائل »نسمة«

قرأ علي »نسمة« الذي لا يعرف مهنة غير الحب رسالة من »روحه« التي هرب منها الى الشقاء حتى لا يخسر أحلامه… وسمعته يقول بآهاتها:
»أعجب كيف تستطيع ولوج النوم. كيف لا يلفظك بطن الليل ويرميك في سديم الأرق والعذاب الذي يلذك.
»عيناي كرتان من زجاج حين أتناساك، فاذا ما تمددت فيّ الذاكرة وتمطيت متباهيا بانغلاقها عليك، اشتعلتا بلهيب الغضب، وفي الحالين لا أرى الا ظلي يطارد طيفك.
»تقول انني أجذبك نحو الخطأ، وأقول انك ترفعني نحو العدم.
»فراشي صحراء بلا قمر… أتناثر رمالا عديمة اللون فوق مداها المفتوح على الفراغ والسأم، وأفقد احساسي بجسدي. لا يعيش الانسان بروحه فقط، وليس للروح معنى خارج الجسد. أحس لسع الرمال المحروقة في كبدي. اتخيلك على الطرف الآخر، عند آخر مدى البصر، وأحاول الوصول اليك. أزحف، أحبو، أحفر في الطوفان خنادق. ترتفع الشمس فتكوي عقلي، وأتهاوى الى قعر الظن والخيبة بلا مشيعين.
»اندفع عبر المسافة المفتوحة للقلق باحثة عن مرفئك، ولا وصول. يأخذك الجفاف مني. اراك تستكين لاحتراقك متلذذا بألمك. لا تدفع عنك النار ولا تهرب منها، وتضنّ علي حتى بالدعوة الى الاحتراق معا.
»أقدم اليك مني المرأة فيجيبني من لدنك الفيلسوف، وأراك تهيل على الرجل فيك أكواما من الرماد وتكتم ألمه باستنخاء الرجولة فيه.
»لا تأخذني ولا تأتيني. تنتظرني ويزعجك انتظاري. تبني بالرمل الميت سدودا داخلك، وكلما نجحت في اقتحام واحد منها ضحكت مني وانت مطمئن الى انك قد ازددت بعدا والى أنني سوف ازداد يأسا.
»هل تراني قلت بوضوح اني احبك؟!«

 

رسائل قصيرة..

اغتسل الليل بالضوء فتبدى وجهك مكتملا، ينثر الاحلام على أسرة النائمين.
* * *
لماذا تحجرين على صمتك. ان دويه يصم القلوب، فاطلقيه!
* * *
تمضغين عذابك وحيدة، ويسعدك الشعور بالتفوق: لقد نجحت في ابتداع ما يحرمك متعة الحياة!
بجهد أقل تستطيعين ان تسعدي اكثر، وان تشركي في العذاب غيرك فيكون الحب!
* * *
ليس العالم دائرة مغلقة من البغضاء والحاسدين والتعساء والطامعين.
على الطرف الآخر من المجرة ثمة من يفكر فيك بشوق، وثمة من يتشهى لحظة اللقاء مع ابتسامتك التي أمضّها الهجران وندرة الاستخدام!
* * *
تقولين: ليس لي غيرك،
لكنك تتصرفين وكأن الكل أقرب من ذاك الذي وحده لكِ!
* * *
الهواء متخم بالقبلات التي لم تصل الى أصحابها!
اغتسل الليل بالضوء فتبدى وجهك مكتملا، ينثر الاحلام على أسرة النائمين.
* * *
لماذا تحجرين على صمتك. ان دويه يصم القلوب، فاطلقيه!
* * *
تمضغين عذابك وحيدة، ويسعدك الشعور بالتفوق: لقد نجحت في ابتداع ما يحرمك متعة الحياة!
بجهد أقل تستطيعين ان تسعدي اكثر، وان تشركي في العذاب غيرك فيكون الحب!
* * *
ليس العالم دائرة مغلقة من البغضاء والحاسدين والتعساء والطامعين.
على الطرف الآخر من المجرة ثمة من يفكر فيك بشوق، وثمة من يتشهى لحظة اللقاء مع ابتسامتك التي أمضّها الهجران وندرة الاستخدام!
* * *
تقولين: ليس لي غيرك،
لكنك تتصرفين وكأن الكل أقرب من ذاك الذي وحده لكِ!
* * *
الهواء متخم بالقبلات التي لم تصل الى أصحابها!

 

Exit mobile version