للمرة الثانية في أسبوع واحد أكتب متأثرا بالفشل الذي مني به مؤتمر ميونيخ للأمن الأوروبي. لم أكن الوحيد الذي حكم على المؤتمر بالفشل. فالانطباع العام الذي خلفه المؤتمر بين المعلقين والمراسلين كان الفشل. أظن، ويشاركني في الظن أعضاء في وفود حضرت المؤتمر بأن المشاركين ذهبوا إلى ميونيخ غير متوقعين نتائج مبهرة أو حلولا لمشكلات طال أمد انتظار انفراجها. كانت مداخلاتهم، من حيث المضمون واللهجة والتضارب، دليلي على أنهم لم يتوقعوا خيرا أو جديدا من المؤتمر.
***
تنبع حماستي لمؤتمر الأمن الأوروبي من أمرين. أول الأمرين أن عددا لا بأس به من الدورات السابقة ناقش قضايا هامة استفدنا منها نحن المتابعين من الشرق الأوسط فائدة كبيرة. استفدنا لأننا تعاملنا معه كنافذة نطل منها على اجتهادات الدول الغربية في مجال الأمن. ولما كان الغرب هو القوة المهيمنة والمؤثرة في النظام الدولي الذي نشأ في نهايات الحرب العالمية الثانية كان لا بد وأن تكون له أصابع تلعب وتحرك الأشياء والأحداث في بقية العالم، والشرق الأوسط بصفة خاصة. ثاني الأمرين أنني بدأت منذ فترة ألمس تدهور أدائه بتدرج متسارع مثله مثل أداء مؤتمرات أخرى اتخذت مع الوقت سمة أو أخرى من سمات المؤسسة الدولية. نعرف أنه لم يوجد في ذهن الآباء المؤسسين للنظام الدولي الذي أفرزته الحرب العالمية إقامة مؤتمر للسبعة العظام ولا مؤتمر للعشرين ولا مؤتمر لقادة الحلف الأطلسي، ومع ذلك وللحاجة إليها قامت وصارت تحتل، على الأقل بالنسبة لدول الغرب، مكانة وتتخذ مكانا في منظومة المؤسسات الدولية. مؤتمرات أخرى لحقت بهذه المنظومة وبينها مؤتمر ميونيخ للأمن الأوروبي.
***
لا نحتاج لخبير في السياسة الدولية والأمن العالمي ليقول لنا أن الأمن الدولي في خطر، وأن مشكلات عديدة وجديدة تهدد السلام العالمي وأخرى عاشت معنا ردحا معتبرا من الزمن وازدادت تعقيدا وخطورة على هذا السلام. المؤكد في نظرنا هو أن البشرية عادت تبدع في ابتكار حروبها وابتداع أدوات لهذه الحروب مختلفة عن معظم ما عهدناه من أدوات حرب في العصور السالفة. أكتب هذه السطور ومن حولي تتدفق أخبار حرب حقيقية ضد الديموقراطية الليبرالية المطبقة في الغرب، وتهديدات أيضا جادة من جانب أكثر من دولة غربية بالاستعداد لشن هجوم مضاد. حروب أخرى تستخدم طائرات متناهية الصغر بدون طيار وعصابات إرهابية، كدنا لكثرتها لا نصدق أن دولة في عالمنا المعاصر لا تحوز على عناصر إرهابية تدربها وتمولها وتطلقها على دول أخرى بينما هي مستمرة في رفع شعار الحرب ضد الإرهاب. كدنا أيضا لكثرتها نفسر مداخلات لمسؤولين في مؤتمر ميونيخ على أنها اتهامات مبهمة لدول بعينها مشتركة في الحرب العالمية ضد الإرهاب بمناصرة الإرهاب في مكان أو آخر. ثم ما هي الحكومة التي لا تشترك فعليا في شن حرب إلكترونية ضد دول أخرى أو على الأقل استعدت بخبرات أجنبية وخصصت أموالا من ميزانياتها لتدريب كتائب على هذا النوع من الحرب؟ المثير في الأمر هو أن معظم الدول المتحاربة بهذا السلاح غير الفتاك ما تزال تتعامل مع هذه المرحلة من حروب السيبرناطقية بنعومة لافتة. الرئيس ترامب ما زال غير مهتم وبلده هي الأشد تعرضا لهذه الحرب.
يشنون هذه الحروب ولكنهم لا يبدون اهتماما كبيرا بها. يهتمون أكثر بحرب هي الأشد غرابة. حرب ناشبة بين الرجال والنساء. هي الآن الحرب التي تشغل بال فئات عديدة في المجتمعات. يظهر أن النساء تنبهن أخيرا لأهمية أن يستخلصن من الرجال حقوقا انتزعها الرجال منهن على مراحل وعصور، نوع من حرب محلية يمكنه ببساطة شديدة أن يشعل فتنة تفتك بجسد أمة. نوع لن تناقشه مؤتمرات أمن.
***
لم يقدم المؤتمر الذي عقد بمدينة ميونيخ قبل أيام قليلة حلولا لمشكلات وأزمات تهدد أمن الغرب. سمعنا تهديدات وتحليلات ولم نسمع حلولا أو اقتراحات بتسويات. عجز الغرب لم يعد سرا. عجزه عن حماية أمنه أصبح حقيقة واقعة. من ناحية أولى هناك مثلا عدم ثقة في قدرة الدولة الأعظم في الحلف الغربي وفي نواياها في حال عدم التدخل الحاسم في حال تعرضت دولة عضو في الحلف لتهديد أو خطر. لا يخالج صانع سياسة في أي مكان الشك في أن العجز في التصرف في الأزمة الأوكرانية واستيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم أصابا الحلف الغربي إصابة بالغة. من ناحية ثانية فشلت أمريكا والغرب برمته في تسوية أزمة أفغانستان، أطول حروب الغرب على الإطلاق، والناتجة أصلا عن تدخل غربي غير مدروس وبتأثير درجة قصوى من الانفعال. من ناحية ثالثة عادت رائحة الدمار الذي أحدثه الغزو الأمريكي للعراق برضاء الغرب تهز مشاعر شعوب وقادة الشرق الأوسط كدليل دامغ على سوء نوايا النخبة السياسية الحاكمة في أمريكا وانحياز تيار قوي فيها ضد المسلمين عامة والعرب بخاصة.. من ناحية رابعة تعرضت الحياة السياسية في تركيا ودول أوروبية وبخاصة بولندا والمجر لانتكاسات ديموقراطية ولم تتحرك أمريكا أو حلف الأطلسي للدفاع عن الحرية والديموقراطية. بسبب هذا التراخي لا جدال في أن شعوب أوروبا وقياداتها السياسية لن تكون في السنوات القادمة مطمئنة على مستقبلها. من ناحية رابعة يوجد الآن قلق كبير في الغرب من أنه ربما يكون قد فقد الشرق الأوسط نهائيا أو على وشك أن يفقده.
***
كذلك اهتزت ثقة العالم بالقيم الغربية عموما والتجربة الديموقراطية تحديدا. صورة الغرب في أذهان غير الغربيين تأثرت بشدة خلال السنوات الأخيرة وخصوصا منذ تولى الرئيس ترامب مسؤولية الحكم في الدولة الغربية الأعظم. عادت تهيمن صورة المجتمع الغربي الأبيض، وكذلك صورة الفجوة الواسعة بين الأغنياء والفقراء وبين الرجال والنساء وبين جيل وآخر من أجيال الشباب. رأيت بنفسي إلى أي حد تهيمن الآن صورة الغرب متراجعا أمام زحف روسيا والصين. رأيت أيضا صورة الغرب مسؤولا عن وحشية الدمار الذي حاق بسوريا وليبيا أساسا واليمن أيضا، وعن الفشل المريع في تسوية الأزمة السورية وأزمة مجلس التعاون والفشل في طمأنة كل من أستراليا والفلبين وماليزيا واندونيسيا وفيتنام إلى أمنها ومستقبلها. بمعنى آخر، الغرب لم يفقد الشرق الأوسط وحده بل ربما فقد معه جنوب شرق آسيا وقد يفقد أستراليا وأمريكا اللاتينية، ولا أظن أن جولة أو أكثر لوزير خارجية أمريكية يمكن أن تعيد الثقة لدى دول أمريكا اللاتينية في قدرة الولايات المتحدة على حماية القارة من غزو المصالح الصينية.
الغرب فشل. يفقد أرضا بعد أرض وشعبا بعد شعب، وتتعرض منظومة قيمه ومبادئه لهجمة هي الأعنف منذ صراعه مع الشيوعية. تراجع الغرب نفوذا ومكانة ومبادئ ولكنه لم يسقط. مؤتمراته ستنعقد في مواعيدها وخبراؤه لن يدعوا فرصة اجتماع تفلت دون المشاركة بالتحليل والتنبؤ. يبقى أن يستعيد الغرب روحه أو يفيق من غفوة طالت ويختار دورا يؤديه في صنع نظام عالمي جديد وصياغة منظومة قيم تتناسب وسلوكيات عصر مختلف.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق