ما زلتُ مؤمناً بعبقرية الدم. إنها مقاومة فريدة للأممية الصهيونية، والإرهاب المصان غربياً. فلسطين، أثبتت أن شمسها ليست غاربة. أنها لا تشبهنا، نحن الذين ابتلينا بالتنظير وتسطير الكلمات وادعاء الحتميات.
فلسطين، تاريخٌ من الحضور والبطولات. سبارتاكوس، ليس في رتبتها الفدائية، الراهنة والمستدامة. فلسطين هذه لن ترحل عن ترابها ولن تودع أفقها، ولن تتخلى عن الصلاة، ولن تنسى أن “بطنها أرهب من السماوات”. هي تحتفظ بأسماء الذين أخلصوا لها على مدار قرنٍ من الطعنات، من كل الجهات.
فلسطين، هذه الباسلة لم ولن تسجد أبداً على ركبتيها، وشمسها ليست غاربة. هي بقعة صغيرة، صغيرة، صغيرة جداً. ولكنها باتساع القارات. إنها الأرض العظمى والشاهقة ومحط الرسالات والحضارات والإنجازات. إنها وسع الأزمنة، ولو أن مساحتها تُقاسُ بالأمتار والأشبار ومساحات الجراح.
يحدث ذلك وسط خوف على فلسطين. خوفي يخونني. ومع ذلك، أحتمل مشاهد القتل وأعيش طقوس الإبادات وتوزيع النعوش والقبور للذين ارتقوا بأجسادهم الى ما بعد الجلجلة.
إسرائيل ثكنة عسكرية أميركية. هي كيان صغير بمهمات قاريَة عملاقة.. مسلحة ومدربة ومنظمة ومقتدرة ومدعومة بعلم وتقنيات، كأحدث الدول الغربية. لا ينقصها أمر أو شيء. هي ثكنة كبيرة. هي جدول أعمال دقيق. هي فاتنة “العرب الأشاوس”. هي “شعار عالمي”، تتباهى به دول الغرب.
فرنسا اليوم، لا تشبه فرنسا قبل 20 عاماً. وإن كانت أياديها ملوثة حتى العنف، بدماء مستعمراتها وإجرامها الجهنمي في إفريقيا. ثم، هي الفريق الذي ساهم في تقطيع هذه المنطقة، كي تكون “إسرائيل” الوحيدة، حارسةً لمصالحها ومصالح بريطانيا. بريطانيا وفرنسا، لا تشبهان ما كُتب عنهما. أوروبا الجميلة، فضيحة أخلاقية.
الدول الإستعمارية مجرمة. دموية. سارقة. مهينة. عرفنا بشاعات وجرائم الإستعمار المباشر. لكن أميركا تتفوق على ما عداها من مستعمرين. البحار لها. الأوقيانوسات لها. السماء لها. الشروق لها. الغروب منها. القتل هواء تتنفسه. الإبادة شهادة حسن سلوك لمن قبل ورضي أن يكون حذاء لقدميها. حكايات الشياطين والأبالسة، لا تساوي سطراً من “ملحمة القتل والإبادات”.
أيها الغرب، جرائمك هائلة. لم تنل جزاءك عليها. استبدلتها بتحقير شعوب وأبلستها.
الرأسمالية، دِينُ السياسة الأعلى، حوّلت الأرض إلى غابة وحوش، مؤونتها أسلحة جهنمية، واجبها اليومي إشعال الحرائق أينما كان. حروب أميركا لا تُحصى. تجتاح اليوم كل الكرة الأرضية. أمامها خصمان مؤقتان: روسيا والصين، وخصم غريب، يُدعى فلسطين. والفلسطيني ومَن إلى جانبه ومن معه، يعرف جيداً، أنه يواجه الطاغوت الأكبر: أميركا الخادم الأمين لـ”إسرائيل”.. ولقب الدول المتحضرة، ينطبق على ما قيل: “ما أفصح القحباء عندما تحاضر في العفاف”.
الغرب، ليس نموذجاً يُحتَذى. بل هو خطر دائم، وإستعلاء مستدام. إنه عصر كارثي هذا الذي برغم ثروات الأرض، في باطنها وعلى سطحها، لا يُطعم ملياري جائع منتشرين في معظم الكيانات فوق هذه الأرض المنكوبة.
كل هذا الكلام أعلاه، لا يُخفي آلامنا. لا يداوي جِراحنا. لا يمنعنا من التشاؤم. التفاؤل إيمانٌ صعبٌ. من يتابع عن كثب مشاهد القتل غير المسبوقة بشرياً أبداً، لا يُمكنه أن يحافظ على سلامة صمته. لقد ملأنا أفواهنا حبوباً مُهدّئة. ما نشاهده، فوق طاقة الإحتمال. خمسة وأربعون يوماً من القتل، ليلاً ونهاراً. قتل الناس: الرجال، النساء، الأطفال. إبادة العمران. الحجارة تنزف غبارها. لون الغبار المسحوق دمٌ أبيض. القتل العمد للشعب إجرامٌ غير مسبوق. أميركا تفرك يديها فرحاً. الغرب خلع أناقته وصار يشبه “دراكولا”. لا أُخطئ أبداً، عندما أرى، رئيس فرنسا وزملاءه الغربيين، يفتون بالإبادة. أقول لنفسي: كم كنت متسامحاً يا أنا؟ أنت تعرف الاستعمار جيداً، ولكن “الحضارة” الغربية غشّتك بلباسها وأدبياتها وحرياتها لكنك غضضت الطرف عن دمائنا التي لطخت حضورهم السياسي على المسرح الدولي. سلالة “دراكولا” موجودة في الغرب وأذنابه العرب.
قلنا مراراً: هذه ليست مأساة. إنها مذابح هائلة الاتساع. للذئاب رائحة شهوات سياسية عفنة. خوف وحشي يلبس أجسادنا. الشكوى تفاهة. الانتظار إقامة في الحقد المبارك. وهو في كل الأحوال، حقد فاشل لا جدوى منه. حقد يُقعدنا عن الفعل.
أحياناً تبدو فلسطين تحبنا أكثر منا. هي تُقتل، تُسفك، تتوجع، تئن، تتخضب، تتعثر، ولكنها لا تصمت أبداً. صوتها في فوهات البنادق، وراجمات الصواريخ، وسواعد المقاتلين، وإيمانهم السماوي الخصيب.
ذات انهيار شخصي، تطلعت إلى السماء، كطفل يُصدّق الملائكة. فوقي، ليس هناك من سماء. لا مكان لها في هذا الكون. فوقنا فضاء. الأزرق فيه كاذب. الفضاء في غزة، نار وحقد وسلاح وحرائق. لا تشع السماء لزائريها من أطفال غزة، الذين ولدوا وعادوا إلى موتهم. عدد اليتامى، بعدد الدموع التي لم تيبس بعد. بعدد الأحزان الشاهقة. أهذا عالم أم جحيم؟ من يحتمل القتل ثم القتل، ثم القتل؟ قيل لنا مراراً، السماء تحت أقدام الشهداء. لم أصدق ذلك. نريد شهداءنا معنا، أحياء عند أحبتهم يُرزقون.
متعبٌ. متعبٌ. متعبٌ.
وجهي مكفهر. صمتي يحميني. إنما، أخرج أحياناً لمصافحة التفاؤل. أقول: لا أعرف مقدساً كونياً أكثر قداسة من الفلسطيني وأقوى من شعبها.. هي المسيح المصلوب والمؤمن بالقيامة.
حظنا التاريخي مخضب بالدم. أننا في جحيم الهمجية “الاسرائيلوأميركية”.. “والبترو إسلام”.
صعبٌ جداً أن أكتب عن فلسطين، الدرة الدموية الإنسانية.
صعبٌ جداً أن لا ترتكب خطأ. الخطأ هنا، فرصة لارتكاب الحقائق، قبل أن تغتالها المصالح.
أخيراً، ما زالت السماء واضحة، ولا تزال الأرض كرة من العنف. كأن لا شفاء من الإجرام. ومع ذلك، لن ألجأ إلى إنتحار يومي. لا يراودني الغياب. وإذا كان موتي ينتظرني، كما يُسرع إلى الشهداء، فأنا لست مستعداً ولا مستعجلاً.
وإذا كان نظام القتل والإبادات عريقاً، فلن أتنازل عن تفاؤلي بفوز فلسطين على أعدائها. هناك دائماً قيامة بعد كل صلب وجلجلة.
إذا كان العالم مريضاً ومعدياً ومرعباً، فإنني أولد كل يوم واتجه بصلاتي إلى كعبة القدس وبراءة الطفولة في غزة.
لن أتكيف مع الموت وسأشاهد المذبحة، بألم مُضرَّج بنبل الشهادة. شهادة شعب، لديه معجزة التكرار، والإقامة في المستقبل. مستقبل ما بعد الجلجلة.
إن اليأس البنّاء يُنجب المعجزات.
غزة أسطورة.. وفلسطين قيامة تتوالد.
دورنا الراهن، أن نخون بجدارة، ما اعتدنا عليه. كل ما كان عندنا قابل لأن يُنفَق أنفقناه مراراً. كان كلامنا أكبر من سلاحنا. أمامنا فرصة لإعادة بناء ضمائرنا الخائرة والفاسدة والرثة. مسؤوليتنا حماية الأمل، الآن وفي كل آن. مهمتنا، إعادة كتابة السيرة الفلسطينية والسير العربية بلغة الحياة. لن نتكيف مع السقوط. وإذا كنا لا نستطيع تغيير الراهن الآن، فإننا قادرون على ابداع مستقبل لائق بالإنسان. لقد أعطينا للأخطاء والجرائم فرصة زمنية مديدة. أمامنا مدىً زمني وبطولي وإنساني.
بدءاً من اليوم، تكتب غزة الفصل الأول، من “الحرية لفلسطين”. التاريخ الشيّق والإنساني يُكتب بالفداء. فلسطين راهناً، هي رواية الزمن الآتي. ألم يُقَل أن فلسطين ولاَّدة؟
غودو هذه المرة سيأتي.