الوطن ليس مقولة تاريخية. ربما وُجِدَ في الماضي باسم الوطن الحالي، ولكن في أماكن أخرى. الفينيقيون ـ الكنعانيون مثلاً وُجِدَ معظمهم في سوريا الراهنة. والعرب تاريخياً وُجدوا في مساحة أوسع من لبنان بكثير. الوطن تعبير جغرافي ولا يتحدث تاريخياً عن رقعة جغرافية محددة أو واحدة. هو تعبير متناقض في ذاته. يبقى في المخيلة عله يفيد في بعض ما يُنوى فعله.
الدولة هي المقولة الراهنة والقانونية محلياً ودولياً. وهي ما يجب أن يؤخذ بالاعتبار. يصح القول ببناء الدولة لا بناء الوطن الموجود في مخيلتنا، شئنا أم أبينا. الوطن موجود في المخيلة ما دام تعبيراً جغرافياً تُسبغ عليه صفات تاريخية. الأفضل اعتماد تعبير الدولة. الدولة التي بين أيدينا التي يُفترض أن تكون الإطار الناظم للمجتمع. تعبير الوطن يُطرح عادة، وكما يعبّر عنه، يبدو أنه لا يمكن التعبير عنه إلا ميتافيزيقياً، هو سبب لمزيد من التفسّخ والاهتراء.
الوطن مُعطى أسطوري. نحن نبني الدولة لا الوطن. الدولة هي المستقبل. الحديث عن بناء الوطن هو من الماضي. الماضي مثقل بالمآسي. نخترع له الأفراح. هذا ما يغيب عن ذهن النخب الثقافية والسياسية. النخب الاقتصادية لا يهمها الأمر ما دامت تحقق أرباحاً في وطن أو دولة أو مستعمرة.
كلمة وطن تتجاوز الانقسامات وتتجاهلها، تتجاوز الطائفية وبواعث الاهتراء. في هذا التجاوز خدمة للطبقة المالية العليا. الدولة تجبر الجميع على الانضواء. الوجه الآخر للدولة (الحديثة) هو المواطن. المواطن بالتعريف مشارك في القرار. يصعب أن تكون هناك تشكيلات فوقه لإلغائه. المواطن تثبيت للدولة. مواطن في دولة. لا التباس بعد التعريف.
أدت الأوطان بميثولوجيتها التاريخية الى شرذمة اجتماعية. لم يعد ممكناً حلها، أو تخفيف أثرها في العمل السياسي إلا عن طريق الدولة والسياسة. الأوطان العربية مليئة بهذه التشرذمات في أطر تاريخية عريقة. لا يمكن القفز فوقها وتجاهلها. الحل العربي يبدأ مع حل التناقضات الداخلية في الأوطان، ويمر عبرها. الهم هو المحافظة على سيادة الأوطان كما هي. والأهم إعطاؤها اسماً آخر هو الدول؛ لا إفراغها من أي مضمون تاريخي، أو ممّا يتعلّق بالذاكرة التاريخية (سواء كانت حقيقية أو موهومة). لدينا في الأوطان العربية الكثير من الطائفية. ما يعني الابتعاد عن الحل العربي. لكن هذه الطائفيات ذاتها تجد أن لا بد من الحل العربي، وأنّ الإطار العربي يتفوّق على الاتحادات والأقطار المحلية (الخليج، المغارب) لأنه يتشكّل من دول. هذا التشكّل يدل على حداثة.
الحداثة (دولة ومواطن) غير ممكنة مع الأوطان. ينبغي تحويل الأوطان الى دول. الدول تدار بالسياسة. السياسة ترتكز الى أفراد تحرروا من الطوائف، أو في طريقهم الى التحرر منها. أضافت الدولة الحديثة السياسة الى المجتمع فصار للأفراد مكانة. هذا ما يفتقده الوطن اللبناني، وجميع الأقطار العربية. إذا كان في الوطن اللبناني طوائف ضمنها، أو يُضاف إليها، عشائر وقبائل واثنيات، فإن في الأقطار الأخرى العربية طوائف واثنيات وقبائل وعشائر ربما كانت أقوى من الطوائف.
الحداثة التي قدمها لنا الوطن اللبناني سطحية لم تنفذ الى الأعماق. لم تخلق الفرد السياسي. يبقى الوطن كياناً ميثالوجياً موهوماً. وتبقى الدولة هامشية. وتبقى أجهزة النظام هي المهيمنة، وهي التي تدير الوطن. في الماضي كانت الأجهزة الأمنية تدير البلد. في الزمن الراهن تتعاون الأجهزة الأمنية والمصالح المالية على إدارة البلد. وهي أجدى من السياسيين. التسمية مجازية. إذ يُقال أن عندنا سياسيين وبرلمانا وانتخابات من أجل المحافظة على الشكل الديمقراطي المقبول دولياً.
لم يعد إلغاء الطائفية في لبنان ممكناً من دون عملية جراحية. هي عملية بمنتهى الخطورة، وتتطلّب نوعاً أعلى من الاستبداد غير مضمون النتائج. الأمر ممكن بالسياسة، بتراكم التسويات للوصول الى حالة تتشكّل فيها الدولة من مواطنين أفراد يعملون حسب دواعي ضميرهم، لا حسب إملاءات الطوائف. كانت الطائفية قبل الحرب الأهلية وبعدها أقل تشنجاً مما هي الآن. والحل غير ممكن إلا بتراكم تسويات على المدى الطويل.
ربما أصبح واضحاً أن الدولة الحديثة، دولة المواطنة، لا تُبنى إلا بالنمو الاقتصادي. النمو الاقتصادي المصرفي هو نمو مالي. تراكم إيداعات مالية في المصارف، من مصادر داخلية أو خارجية، هو نمو أحادي الجانب تقوم به طبقة واحدة. النمو الحقيقي هو ما تقوم به جميع الطبقات في جو من التفاوض، إن لم نقل التعاون. ليس التعاون سهلاً، وربما كان نوعاً من الطوباوية استخدام هذا التعبير. التفاوض يعني مشاركة العاملين، والكادحين، ونقاباتهم مع أصحاب رؤوس الأموال والاستثمارات، ومع الدولة.
نظرية أصحاب رؤوس المال الكبار والمصارف تقوم على ثنائية القطاع الخاص-الذي يملكونه- مع القطاع العام الذي ينوون أن يملكوه. ليس في هذه النظرية شعب ذو مصلحة أو مطالب. هناك الرأسمال فقط وما يؤمل فرضه على الدولة. أحياناً يقف أعيان الدولة على الحياد. وأحياناً، بل في غالب الأحيان، يتواطؤون على تقديم هبات للرأسمال وذلك بإعطائهم شرائح من ممتلكات الدولة لإدارتها أو تملّكها. يسمون ذلك شراكة القطاعين. والشائع هو تملّك القطاع الخاص للقطاع العام؛ مع عدم إغفال قدرة القطاع الخاص على الهيمنة على القطاع العام حتى ولو لم يتملكه أو يديره. كثيراً ما يُضرب بالضوابط القانونية عرض الحائط. وغالباً ما تشكّل هيئات ناظمة تكون مهمتها الإشراف على سيطرة القطاع الخاص وهيمنته على القطاع العام.
الفصل بين القطاع الخاص والقطاع العام مفتعل ووهمي. هو لا يصح إلا حيث تكون الدولة، كدولة حديثة ذات سلطة قوية وقادرة، وفارضة هيبتها. معنى ذلك أن يتقيّد الجميع بالقانون. والأكثر من ذلك أن يكون العاملون في القطاعين الخاص والعام مشاركين فعليين في القرار. لا يمكن حفظ حقوق العاملين من دون ذلك. المقصود هنا أن يشاركوا في القرار لا المطالبة باتخاذ قرار، كما حصل بشأن سلسلة الرتب والرواتب في لبنان، في السنوات الأخيرة.
العاملون من دون رأسمال يملكونه، أي الذين يتلقون أجراً لقاء عملهم، يعرفون قدر نفسهم، ويعرفون أن ما يطالبون به حقهم، ويعرفون أن حقهم هو أكثر مما يحصلون عليه؛ لكنهم لا يطالبون، ولن يطلبوا أكثر من حقهم: لسبب بسيط هو أنهم لا يملكون القدرة على ذلك؛ ولسبب بسيط آخر هو أنهم أكثر عقلانية من أصحاب الراسمال. من طبيعة الرأسمال أن لا تتوقف شهيته عند شيء. ومن طبيعة كونهم رأسماليين يطلبون المزيد، ولا يكتفون به. من طبيعة العاملين أنهم لا يطلبون أكثر مما يكفيهم لتلبية شروط الحياة، وهم لا يستطيعون غير ذلك. الجشع صفة رأسمالية، يلحقها الرأسماليون بالفقراء حين يطالب هؤلاء بتأمين شروط الحياة. تزداد الثروات في العالم منذ سنوات بسبب شره وجشع الرأسماليين والرأسمالية، ومن يصطنعونهم في رأس السياسة والإدارة. يزداد الفقراء لأنهم لا يطالبون بالكثير، أو لأنهم سلخوا عن القدرة على المطالبة. التمييز بين القدرة والاستطاعة، وبين الشهية والقدرة والاستطاعة مسألة مألوفة لكنها غالباً ما تقع على عاتق العاملين الذين لا يستطيعون ردّها؛ الثقافة ووسائل الإعلام والقمع لا تسمح لهم بذلك.
بالسياسة وتراكم التسويات وتراكم المكتسبات تُبنى الدولة. الدولة إطار تجريدي، لكن السلطة في إطارها ليست كذلك. هي المؤسسات التي تعمل وتسيّر شؤون المجتمع. الدولة شرط لما عداها، ولا شرط عليها. نؤمن بها أبدية سرمدية. هي في ضميرنا. ونصير مواطنين لأنها في ضميرنا. شرط المواطنة المشاركة. استبعاد المواطنين عن القرار بواسطة الانتخابات حسب لوائح مغلقة يعيد الشعب الى حالة الرعايا. الرعايا الخاضعين لأباطرة الطوائف ومساعديهم، وللطبقة المالية المتحالفة معهم.
سيادة الدولة تنبع من مواطنيها. يؤدي هؤلاء واجباتهم عندما ينالون حقوقهم، أي عندما يشاركون ويكون لمطالبهم جدوى. ليست الحقوق المعطاة، إذا أعطيت، منّة أو هبة. هي واجب على الطبقة العليا. يحذف المواطنون من المعادلة: معادلة الدولة-المواطن-الطبقة الرأسمالية. في تعاون وتفاوض هؤلاء، يؤدي هذا الحذف الى إلغاء الدولة وعدم ترسّخها في ضمير الأفراد. عندما يستبعد الشعب من الدولة ماذا يبقى؟
يرى البعض حلاً في “اقتصاد المعرفة”. هذا التعبير مهين، يعني فيما يعنيه تحويل الإنسان الى سلعة. نعلّم أولادنا. يكتسبون الثقافة والمهارات لكي نصدّرهم الى الخارج، أي نبيعهم لأوطان أخرى. المعرفة واجب انساني. فرض يتكوّن الانسان على أساسه. لم تعد المعرفة إضافة الى الإنسان الحديث، هي جزء من كيانه.
المعرفة أساس للتنمية. تكون التنمية بازدهار الصناعة والزراعة والخدمات. لا تنشأ الدول الحديثة على أساس الجهل. الجهل يسبب التشنجات والحركات الأصولية التي تكلف المنطقة حروباً أهلية مدمرة. الطائفية نوع من الجهل. العلمانية هي المواطنة المرتكزة على المعرفة والمشاركة. فصل الدين عن الدولة، على ما في هذا الشعار من التباس، لا يكون إلا بالتنمية. التنمية ليست زيادة حجم الاقتصاد وحسب، هي المشاركة في المواطنة.
التنمية تنشأ في مجتمع مفتوح. نحن مجتمع مغلق، بالأحرى مجتمعات طائفية مغلقة، ومؤسسة على الجهل، وعلى اعتقاد كل فريق أنه يمتلك حقائق ليست عند غيره، ويمتلك ميزات ليست عند غيره؛ هذا الغير المعتبر عند كل فريق أنه يحيك المؤامرات ضده. وما يُسمى الحرمان ليس مقتصراً على طائفة دون غيرها. هو عند كل الطوائف. كل طائفة تعتبر أنها تختص به. الحرمان طبقي يعود أساساً الى انعدام المواطنة الذي يحرم الناس من الحقوق؛ الحقوق التي لا ينالها أصحابها إلا بالمشاركة.
الوعي بهذه الأمور يحتاج الى نزق فكري ومخاطرة. النزق ضروري من أجل اجتراح أفكار جديدة والخروج من الموروث الفكري الذي لم ينتج عنه إلا المآسي. والمخاطرة ضرورية رغم أنها تعرّض أصحابها للاستبعاد من الطوائف. يصيرون منبوذين في مجتمعهم. للضرورة أحكام. الخروج من الانقسامات الراهنة والعبودية الطوعية يتطلّب ذلك.
النزق الفكري والمخاطرة يؤديان الى نشوء نخبة ثقافية تنافس النخبة السياسية-المالية الراهنة. هذه تحكم قبضتها، ويكاد الناس يلفظون أنفاسهم اختناقا.
في هذه الأيام ذكرى أليمة هي اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. بعد الحرب الأهلية وضع البلد على سكة التنمية. من قبل كانت تجربة الرئيس شهاب في بناء المؤسسات. فعلت النخبة السياسية ـ المالية الراهنة كل ما بوسعها للقضاء على المؤسسات وإنهاء تجربة التنمية. لم يكن مفترضاً أن يكون هذا أو ذاك محبوباً لدى كل الناس. كان مطلوباً أن تنشأ معارضة عابرة للطوائف ضد هذا وذاك، وموالاة عابرة للطوائف مع هذا وذاك. كان المطلوب أن يكون النقاش مفتوحاً حول كل من التجربتين. النقاش المفتوح يؤدي الى مجتمع مفتوح، والى ديمقراطية جدية.
الذي حدث كان عكس ذلك. جرى الاصطفاف الطائفي ضد هذا وذاك. انغلقت الطوائف على نفسها بدل أن تسير على طريق الانفتاح. عمّ الجهل وخوف كل فريق من الآخر. تعمم لدى كل طائفة أنها هي الخاسرة من التسوية التاريخية في الطائف وما بعدها. هل يبني مجتمع على الخوف المتبادل؟ ينشأ المجتمع بانفتاح الجميع على الجميع. عند ذلك فقط يمكن القول إننا نعيش سوية. عند ذلك فقط نستطيع القول بالعيش المشترك.
يستحيل العيش المشترك إلا بالدولة والمواطنة وحدهما، لا تشاركهما الطوائف وأخواتها.
أخيراً، ليس هناك اقتصاد وحسب، وإلا كان اقتصاداً مبتذلاً وبذيئاً، أي لصالح طبقة دون غيرها. وليس هناك سياسة وحسب، وإلا كانت سياسة تخدم أهدافاً ليست في صالح المجتمع. هناك اقتصاد سياسي وحسب، اقتصاد سياسي في إطار الدولة عماده الفرد المواطن.
تنشر بالتوافق مع موقع الفضل شلق